| ملمحمة جلجامش البابلية | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
{ القيصر }
عدد المساهمات : 311 النقاط : 517 الشُّهرة : 3 تاريخ التسجيل : 20/03/2011 العمر : 35 المكان : سوريا - حمص - مقيم في السعودية الجنس : المزاج : اعتباراً من الغد
| موضوع: ملمحمة جلجامش البابلية السبت 25 يونيو 2011, 8:19 pm | |
| المقطع الأول ملحمة جلجامش والنّص القرآني قراءة جديدة تكشف عن مرموزات المَلْحَمَة وفضائية رحلاتها من خلال وحدة الشّخصيتين جلجامش وذي القرنين على ضوء اللّغة والعلم
تأليــف عالــم سبيــط النّيـــلي
إعداد فرقان الوائلي
الطبعة الأولى 2004 المحتويات المحتويات الصّفحة 1.المحتويات 2.المراجع 3.أهداف البَحْث 4.منهج البَحْث الفصل الأوّل: رؤيا عامّة للملحمة… 5.احتساب جلجامش لفرق الجّاذبية… 6.غابة الأرز أم غابة الأشجار الصّخرية؟… 7.رمزية عشتار…. 8.رمزية الثّور السّماوي… 9.مناحة عشتار على فخذ الثّور…. 10.الرّمزية في شخصية أنكيدو… 11.المحاولات الفاشلة لتدنيس أنكيدو … 12. السّمات الثّابتة للشّخصية في النّص الملحمي… الفصل الثاني: تمهيد للكشف عن جلجامش 13.من هو جلجامش؟… 14.الرّمزية في الأثلاث… 15.إزالة التّعارض بَيْنَ العمودين الأوّل والثّاني… 16. الرّمزية في الآلهة المزعومة: أيّا-أنليل-إبرا الفصل الثّالث: قراءة جديدة في اللوح التاسع والحادي عشر 17.رحلة ذي القرنين في القرآن… أ.العناصر الزّمكانية الثلاثية في سورة الكهف. ب.الإيضاح العلمي للرواية الغريبة عن ذي القرنين 18.أوجه التّشابه بَيْنَ الشخصيتين الأوّل: التّشابه في التّعريف بالشّخصية الثّاني: تشابه الشّخصيتين في البَحْث عن الخلود الثّالث: التّشابه بينهما في سلوك الظلمة الرّابع: التّشابه في نصائح الشّيوخ لهما الخامس: التّشابه في اتجاه الرّحلة السّادس: التّشابه بَيْنَ جبل ذي القرنين(قاف) وجبل جلجامش(ماشو) السّابع: التّشابه في وصف محطات التّوقّف الثّامن: التّشابه في معنى اسمي البطلين التّاسع: التّشابه في الملوكيّة 19.التغيرات النّسبية في الزّمن على جلجامش 20.أسطورة الطّوفان أم طوفان الأسطورة..؟ 21. الملاحق 22. 23. 2 المَرَاجِع 1.القرآن الكريم 2.العهد القديم 3.ملحمة كلكامش د.طه باقر 4.ملحمة كلكامش د.سامي سعيد الأحمدي 5.التّبيان في إعراب القرآن أبو البقاء العكبري 6.البرهان في تفسير القرآن هاشم بن سليمان البحراني 7.تفصيل آيات القرآن الحكيم جول لابوم 8.مستدرك التّفصيل أدوار مونتيه 9.المعجم المفهرس لألفاظ القرآن فلوجيل ـ فؤاد عبد الباقي 10.المعجم الوسيط مجمع اللّغة العربية 11.معجم مقاييس اللّغة أحمد بن زكريا بن فارس 12.تكملة المعاجم العربية رينهارت دوزي 13.حديث ذي القرنين الإمام علي بن أبي طالب(ع) 14.حديث الجّبل المحيط(جبل قاف) الإمام علي بن أبي طالب(ع) 15.قصص الأنبياء الرّاوندي 16.النّور المبين في قصص الأنبياء والمرسلين نعمة الله الجزائري 17.النّسبية برتراند راسّل 18.آينشتاين والنّسبية عبد الرّحمن مرحباً 19.(المجالات المغناطيسية)-نظرية كليّة الهندسة-منهج 20.المعادن-(الفيرات) كليّة الهندسة-منهج 21.الكون دوريّات(لايف) 22.تصنيف نهج البلاغة لبيب بيضون 23.بلاد ما بَيْنَ النّهرين ليو وينهام-ترجمة فيفي عبد الرزّاق 24.العراق القديم جورج رو-ترجمة حسين علوان 25.الأساطير في بلاد ما بَيْنَ النّهرين صموئيل هوك-ترجمة داود عبد القادر 26.تاريخ الحضارات القديمة د.طه باقر 27.الفكر السّياسي في العراق القديم عبد الرّضا الطّعان 28.الحياة اليومية لبلاد بابل وآشور جورج كونتينيو- ترجمة سليم طه التّكريتي 29.اللغة الموحّدة المؤلّف-مخطوط 30.النّظام القرآني المؤلّف-مطبوع ملاحظة: (لَمْ نذكر طبعات المراجع المذكورة أعلاه اعتماداً على ذكر الموضوع والفَصل الذي جرى الاقتباس منه أو الإحالة عليه ... القيصر $ | |
|
| |
{ القيصر }
عدد المساهمات : 311 النقاط : 517 الشُّهرة : 3 تاريخ التسجيل : 20/03/2011 العمر : 35 المكان : سوريا - حمص - مقيم في السعودية الجنس : المزاج : اعتباراً من الغد
| موضوع: رد: ملمحمة جلجامش البابلية السبت 25 يونيو 2011, 8:21 pm | |
| المقطع الثاني بِسْمِ اللهِ الرَحْمَن الرَّحِيْم كلمَـــــةٌ أولــــــى هذا الكتابُ هو رؤيا حديثةٌ لموضوعٍ قديمٍ.. الموضوع هو قصّة جلجامشَ ذلكَ الأثر الملحميُّ الذي خلّدَتْهُ الرِّقمُ الطينيَّةُ البابليَّةُ.. والرؤيا هي النتاجُ التطبيقيُّ للأُسُسِ العامَّة للفكْرِ القصديِّ على نصِّ الملحمَةِ وعلى نصوصٍ أخرى ذات قيمةٍ عليا تجري في مجراها وتشيرُ إليها من أوضح طريقٍ.. ونحن نقرّر أنّه بصَرْفِ النظرِ عن الإنكارِ الضمنيِّ الذي يثيرُهُ لدى المتلقّي العنوانُ الفرعيُّ لهذا الكتاب القاضي بقيامِ أسلافِنَا القُدامى برحلاتٍ فضائيةٍ.. نقرِّرُ أنَّ ما انتهى إليهِ النيليُّ يحملُ من الوجاهَةِ والمصداقيّة حدَّاً يبعثُ على التأمُّلِ في المفاهيم القصدية التي أفضَتْ إلى هكذا نتائجٍ إن لم يبعثْ على ضرورةِ مراجعَةِ أقوال الآثاريين بخصوص العديد من القضايا التي تتعلّقُ بهؤلاء الأسلافِ ومدى ما لديهم من أفكارٍ تتساوقُ مع آخر ما توصّل إليه العلم الحديثُ على الأصعدةِ كافَّةً.. وسيطّلع القارئ في غضون هذا الكتاب على بعضٍ من هذه الأفكار المتَّسقة بشكلٍ يثيرُ العجبَ ويحوَّل النَّظْرَةَ للملحمَةِ إلى وجهةٍ أخرى هي غير ما اعتادَهُ المثقّفُ المتابعُ لاستنتاجات الباحثين عنها.. ولا يفوتنا أن نذكرَ أن هذا الكتابَ قد رُفِضَ من قبل الرقيب الثقافي في وزارة الثقافة في العراق، وكان هذا قبل عدَّةِ أعوامٍ، وكانت الحجّة هي في مخالفته لما أسماه الرقيب بالمتفق عليه بين علماء الآثار كالقاموسِ السومريِّ أو الموقف من بعض القضايا التي يدّعون حسمها.. والرقيبُ بهذا الموقف قد غضَّ النظرَ عن أنَّ الكتابَ هو في جزءٍ منه محاكمةٌ لهذا القاموس من جهةٍ ونقدٌ حقيقيٌّ لمقولات الآثاريين من جهةٍ أخرى.. وعلى ذلك فقد انتشرت مخطوطة الكتاب الأولية عبر الوسط الثقافي في العراق وتلقفها المثقفون بحماسٍ مستفيضٍ وصارت معلماً حوارياً في المنتديات الثقافية والمجالس الفكرية كشأن باقي المؤلفات الإثارية للمفكّر العراقي المبدع عالم سبيط النيلي رحمه الله تعالى. وقد جهدنا غايةَ الجهدِ من أجلِ إعدادِ هذا الكتاب بالاستناد إلى المخطوطة التي تركها مؤلِّفُها رحمه الله.. وفي الأثناء قُمْنا بتصحيحها وإعادة صياغة بعض الفقرات فيها وإضافةِ نصوصٍ لاحقةٍ كتبها النيلي بعد تأليفه لها بمدّةٍ، وأثبتنا هذه النصوص كملاحقٍ في آخر الكتاب.. ونحنُ واثقون أن القارئ الكريمَ سيجدُ ما لم نتداركه من أخطاءٍ أخرى، فنرجو منه التفاعل معنا وتنبيهنا إليها لنأخذَ بها في الطبعات القادمة إنشاء الله.. إنَّنا نقدُّم الشكر خالصاً إلى دار المحجة البيضاء ممثلةً بشخص مديرها الأخ أحمد الخرسا على تكفُّلِها بطباعةِ هذا الكتاب وإخراجه بالشكل الذي ساوقَ مضمونَه وجعل منه تحفةً جميلةً قلباً وقالباً.. نسأل الله تعالى أن يأخذ بيديه من أجل خدمة الفكر الإسلاميَّ الأصيلَ ويوفقه وأخوته في المحجة البيضاء لما فيه خير المسلمين جميعاً.. والله سبحانه وليُّ التوفيق.. ?
... القيصر $ | |
|
| |
{ القيصر }
عدد المساهمات : 311 النقاط : 517 الشُّهرة : 3 تاريخ التسجيل : 20/03/2011 العمر : 35 المكان : سوريا - حمص - مقيم في السعودية الجنس : المزاج : اعتباراً من الغد
| موضوع: رد: ملمحمة جلجامش البابلية السبت 25 يونيو 2011, 8:31 pm | |
| المقطع الرابع مَنْهَجُ البَحْث نستخدمُ في هذا البَحْثِ المنهجَ اللّغويَّ الجديدَ الذي اعتَمَدْنَاه سابقاً، وأعني بِهِ الحلَّ القصدي للّغة الذي تمَّ تطبيقُهُ على مجموعةٍ من المواضيعِ والنّصوصِ التي ربّما لَمْ يصلْ أكثرُها إلى القارئ الكريمِ بعدُ. لذلك سأوضّحُ بعضَ ما نعنيه بهذا المنهجِ. إنّه يعني إخضاعَ النصِّ لشروطِ البَحْثِ فيه والتي مِنْهَا: 1. إنّ النصَّ قصديُّ الدّلالةِ: وهذا يعني استبعادَ كافّةِ الطُرقِ اللغويةِ قديمِها وحديثِها لمعالجةِ النصِّ. فهذا المنهجُ لا يُجيزُ إجراءَ أيِّ تقدير للجملةِ أو إعادةٍ لبنائِها بعد التفكيكِ، كَمَا لا يُجيزُ إجراءَ أيِّ تقديمٍ أو تأخيرٍ لألفاظِ العبارةِ. وقصديةُ النصِّ في هذا المنهجِ هي حاصلُ مجموعِ القصديةِ في كلِّ عبارةٍ من عباراتِهِ. 2. إنّ اللفظَ قصديُّ الدّلالةِ أيضاً: فلا يجوزُ تقديرُ غيرِهِ أو تخمينُ مرادفٍ له. فثمّة ألفاظ ٌيَتَساهلُ المترجمون والشُّراحُ في اعتبارها من المترادفاتِ، بَيْنَمَا تَكْمِنُ دلالةُ النصِّ في التفريقِ بَيْنَهَا. 3. إنّ اللفظَ عامُّ الدّلالةِ: فهو ينطوي على(حركةٍ عامّةٍ)، ويستحيلُ أن يكونَ بحركةِ أيِّ لفظٍ آخرٍ، وَلِذَلِكَ فإنّه غيرُ مقيّدٍ بشيءٍ سوى حركتِهِ هو، ولا يتداخلُ مَعَ أيِّ لفظٍ آخرٍ في المفهومِ، وإنّما قَدْ يشاركُ عدداً كبيراً من الألفاظِ في وصفِ شيءٍ أو إيقاعِ الحركةِ على هذا الشيءِ. ويُعتبرُ هذا المبدأُ من أهمِّ مبادئِ الحلِّ القصديِّ للّغة، حيثُ تمكَّنَ بِهِ من التخلّصِ من عددٍ كبيرٍ من الإشكالاتِ اللّغويةِ في النّصوصِ. فمثلاً: إنّ لفظَ (ربٍّ) في هذا المنهجِ لا يعني (إله). ولكنَّ مفردةَ (إلهٍ) في انطباقِها الخارجيِّ على الذّاتِ (سبحانه وتعالى) تعني بالضرورةِ (رباً) وتنطوي عليه، والعكسُ غيرُ صحيحٍ. وسببُ ذلِكَ إنّ الإلهَ لا يكونُ إلهاً حتّى يكونَ قبلَ ذلِكَ ربَّاً. الإلهُ واحدُ والأربابُ كثيرون. ولكن لو قُلْتَ: (فلانٌ اتَّخَذَ إلهين)، فهي عبارةٌ لا تعني وجود إلهين فعلاً، وإنّما تعني بوصفِ هذا الفلان وفكرته المخالفة لمعنى اللفظِ، إذ أنّ لفظَ (إله) لا تَنْطَبِقُ حركتُهُ إلاَّ على واحدٍ في الوجودِ لا يتعدّدُ. ولو أَضِفتَ صفةً أخرى للربِّ مثل (الرّب الأعلى) لكان المتعيّنُ مِنْهَا هو الإله فقط، لأنّها أعلى صيغةٍ من صيغ التفضيل. ومعنى ذلِكَ إنّ المرءَ لو قَالَ(فلانُ ربّي) فلن يكفرَ شرعاً ولا لغةً، لأننا نستعمل هذِهِ المفردةَ في عباراتٍ مشابهةٍ فنقول: ( فلانُ ربُّ الدّارِ وربُّ المالِ وفلانُ ربُّ البيتِ…الخ). ويمكن أن يكونَ للجماعة ربُّ أيضاً إذا كَانَ يعتني بتربيتهم على أيِّ نحوٍّ سيّء كَانَ أو حَسَنٍ. ومن هنا قَالَ يوسفُ (ع) في القرآن الكريم للسجين (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّك)(يوسف: من الآية42)، لأنَّ السجين مربوبٌ للملكِ. ولكنَّ المَلِكَ لَيْسَ ربّاً ليوسّفَ (ع)، ومن هنا نعلمُ أنَّ فرعون لو قَالَ (أنا ربُّكم) وسَكَتَ لَمَا كَانَ يعني الإلهَ ولَمَا كفَرَ، ولو قَالَ (أنا ربُّكم العالي) لَمَا كفر أيضاً، وإنّما حدّدَ فقالَ (أنا ربُّكم الأعلى) فَعَنَى ذلِكَ الإلهَ. ولو كَانَ الربُّ هو دوماً إلهاً على اللّغةِ لمّا جازَ ليوسفَ (ع) أن يسمِّيَ للسجين رَبّاً غيرَ الله. ولو قَالَ المرء: (فلانٌ اتخذّ ربّاً من دون الله أو الإله) لكان ذلِكَ يعني اتخذّ إلهاً لأنّه أضافَ المركّب (من دون). لذلك وبّخ القرآنُ من اتخذّ ربّاً من دون الله فقال: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) (التوبة: من الآية31) ويخطئ أهل اللّغة خطئاً كبيراً حينَمَا يقولون إنّ عبارَةَ (من دون الله) هي لزيادَةِ الإيضاحِ، لأنَّها جزءٌ من المعنى لا يمكنُ فَصْلُهُ، لأنَّهم أربابٌ فعلاً، ولكنَّ اتخاذَهُم أرباباً من دونِ اللهِ هو المرفوضُ تحديداً لا سواه. ويمكنُ التفريقُ بَيْنَ اللفظينِ من إعادَةِ النّظَرِ بنصوصِ العَهْدِ الجديدِ أيضاً حيثُ يَثْبِتُ بنحوٍ قاطعٍ أنّ عباراتِ الأوائِلِ في ربوبيةِ المسيح (ع) يستحيلُ أنْ ينتجَ مِنْهَا لغوياً معنى الإلهِ. وهي المشكلَةُ التي أدَّتْ إلى انقسامِ الكنائسِ عِنْدَ محاولَةِ التوفيقِ بَيْنَ وحدَةِ الألوهيَّةِ وثنائيَّةِ الرَّبِّ مَعَ الترادُفِ، حيث يعطى المنهجُ الجديدُ الحلَّ المُرْتَقَبَ مُقِرّاً بالربوبيةِ للمسّيح (ع) دونَ الألوهيَّةِ، وهو يُوجِبُ بالمِثْلِ إعادَةَ النّظرِ بالنّصوصِ القديمَةِ لحضارَةِ وادي الرّافدين والتّفريق بَيْنَ الرّموز (إيلو) و(دنكَير) من حيثُ كونها تعنى الإله أو الرّب. فَقَدْ دأبَ المترجمون على اعتبارِ ترادُفِ الرَّبِّ والإلهِ بحيثُ أنَّهُم جادوا على العراقيِّ القديمِ ببضعةِ آلافٍ من الآلهةِ!!. واستغْرَبَ الباحثونَ من تَغَيُّرِ هذِهِ (الآلهة) بسرعةٍ في أسماءِهَا وفي صلاحياتِها، إلى حدِّ أنَّهَا تتغير في صلاحيتها في نَفْسِ النصِّ، بَيدَ أنّهم شكُّوا في كلِّ شيءٍ إلاَّ في طرائقِهِم اللّغويَّةِ. وَقَدْ وَجَدْنَا بالفِعْلِ وعند التّحقيقِ أنَّهُم لَمْ يفرِّقوا بَيْنَ الألفاظِ في داخِلِ النصوصِ، كَمَا في اللّفظ الدالِّ على (ملكٍ، وإلهٍ، وربٍّ)، فكانَ المترجِمُ ينتقي من تِلْكَ المعاني ما يراه ملائماً للجملةِ، بَلْ يستنبطُ من تلقاء نَفْسِهِ معنىً قريباً حينَمَا لا يجد ملائمةً واضحةً بَيْنَ الاسمِ وَهَذِهِ المعاني الثلاثةِ.. فمثلاً إنّ لفظَ (إيلو) إذا جاء مَعَ اللفظ (آشور) فهو يعني عندهم مَلِكَاً، وفي بعضِ الطّقوس يُتَرْجَمُ إلى (إلهٍ). ولكنه إذا جاء مَعَ (البغايا) لَمْ يتمكَّنْ المترجمُ من وصْفِهِنَّ لا بالمُلْك ولا بالرّبوبيَّةِ ولا بالألوهيَّةِ، فيقولُ (المقدسات البغايا!!) في محاولةٍ لإعطاءِ اللفظِ مرادفاً يلائمُ البغايا على نَحْوٍ ما. لَقَدْ كَانَ العراقيُّ يرمزُ إلى جميعِ القوى الكونيَّةِ التي عَرَفَهَا برموزٍ ويَضَعُ عليها إشاراتِ (التحكُّمِ) بالأشياءِ على نَحْوٍ معيّنٍ، ولكنَّ هذا لا يعني أنَّهُ عَبَدَ تِلْكَ القوى أو نَظَرَ إليها كآلهةٍ. وعدا ذلِكَ لا نَجِدُهُم يشيرون إلى فكرَةِ الإله الواحِدِ بأيِّةِ صورَةٍ حَسَبَ ما صوَّرَهُ لنا الباحثوَن مَعَ استثناءاتٍ أُحيطَتْ بإبهامٍ شديدٍ مما سَهَّلَ عليهم مهمَّةَ الخروجِ بالنتيجةِ الغريبةِ كلِّ الغرابةِ، وهي أنَّ تعدّدَ الآلهَةِ قَدْ تطوَّرَ في النّهايَةِ إلى فكرةِ الإلهِ الواحدِ، بَيْنَمَا الفكرتان تعيشان صراعاً مستديماً منذ فجر التاريخ. وبصفة عامَّةٍ سيَجِدُ القارئُ في هذا البَحْث أولى المحاولاتِ الجادّةِ في طريق إعادَةِ النّظَرِ بالنّصوصِ القديمَةِ وإنْ كَانَتْ قليلةً. ... القيصر $ | |
|
| |
{ القيصر }
عدد المساهمات : 311 النقاط : 517 الشُّهرة : 3 تاريخ التسجيل : 20/03/2011 العمر : 35 المكان : سوريا - حمص - مقيم في السعودية الجنس : المزاج : اعتباراً من الغد
| موضوع: رد: ملمحمة جلجامش البابلية السبت 25 يونيو 2011, 8:35 pm | |
| المقطع الثاني بِسْمِ اللهِ الرَحْمَن الرَّحِيْم كلمَـــــةٌ أولــــــى هذا الكتابُ هو رؤيا حديثةٌ لموضوعٍ قديمٍ.. الموضوع هو قصّة جلجامشَ ذلكَ الأثر الملحميُّ الذي خلّدَتْهُ الرِّقمُ الطينيَّةُ البابليَّةُ.. والرؤيا هي النتاجُ التطبيقيُّ للأُسُسِ العامَّة للفكْرِ القصديِّ على نصِّ الملحمَةِ وعلى نصوصٍ أخرى ذات قيمةٍ عليا تجري في مجراها وتشيرُ إليها من أوضح طريقٍ.. ونحن نقرّر أنّه بصَرْفِ النظرِ عن الإنكارِ الضمنيِّ الذي يثيرُهُ لدى المتلقّي العنوانُ الفرعيُّ لهذا الكتاب القاضي بقيامِ أسلافِنَا القُدامى برحلاتٍ فضائيةٍ.. نقرِّرُ أنَّ ما انتهى إليهِ النيليُّ يحملُ من الوجاهَةِ والمصداقيّة حدَّاً يبعثُ على التأمُّلِ في المفاهيم القصدية التي أفضَتْ إلى هكذا نتائجٍ إن لم يبعثْ على ضرورةِ مراجعَةِ أقوال الآثاريين بخصوص العديد من القضايا التي تتعلّقُ بهؤلاء الأسلافِ ومدى ما لديهم من أفكارٍ تتساوقُ مع آخر ما توصّل إليه العلم الحديثُ على الأصعدةِ كافَّةً.. وسيطّلع القارئ في غضون هذا الكتاب على بعضٍ من هذه الأفكار المتَّسقة بشكلٍ يثيرُ العجبَ ويحوَّل النَّظْرَةَ للملحمَةِ إلى وجهةٍ أخرى هي غير ما اعتادَهُ المثقّفُ المتابعُ لاستنتاجات الباحثين عنها.. ولا يفوتنا أن نذكرَ أن هذا الكتابَ قد رُفِضَ من قبل الرقيب الثقافي في وزارة الثقافة في العراق، وكان هذا قبل عدَّةِ أعوامٍ، وكانت الحجّة هي في مخالفته لما أسماه الرقيب بالمتفق عليه بين علماء الآثار كالقاموسِ السومريِّ أو الموقف من بعض القضايا التي يدّعون حسمها.. والرقيبُ بهذا الموقف قد غضَّ النظرَ عن أنَّ الكتابَ هو في جزءٍ منه محاكمةٌ لهذا القاموس من جهةٍ ونقدٌ حقيقيٌّ لمقولات الآثاريين من جهةٍ أخرى.. وعلى ذلك فقد انتشرت مخطوطة الكتاب الأولية عبر الوسط الثقافي في العراق وتلقفها المثقفون بحماسٍ مستفيضٍ وصارت معلماً حوارياً في المنتديات الثقافية والمجالس الفكرية كشأن باقي المؤلفات الإثارية للمفكّر العراقي المبدع عالم سبيط النيلي رحمه الله تعالى. وقد جهدنا غايةَ الجهدِ من أجلِ إعدادِ هذا الكتاب بالاستناد إلى المخطوطة التي تركها مؤلِّفُها رحمه الله.. وفي الأثناء قُمْنا بتصحيحها وإعادة صياغة بعض الفقرات فيها وإضافةِ نصوصٍ لاحقةٍ كتبها النيلي بعد تأليفه لها بمدّةٍ، وأثبتنا هذه النصوص كملاحقٍ في آخر الكتاب.. ونحنُ واثقون أن القارئ الكريمَ سيجدُ ما لم نتداركه من أخطاءٍ أخرى، فنرجو منه التفاعل معنا وتنبيهنا إليها لنأخذَ بها في الطبعات القادمة إنشاء الله.. إنَّنا نقدُّم الشكر خالصاً إلى دار المحجة البيضاء ممثلةً بشخص مديرها الأخ أحمد الخرسا على تكفُّلِها بطباعةِ هذا الكتاب وإخراجه بالشكل الذي ساوقَ مضمونَه وجعل منه تحفةً جميلةً قلباً وقالباً.. نسأل الله تعالى أن يأخذ بيديه من أجل خدمة الفكر الإسلاميَّ الأصيلَ ويوفقه وأخوته في المحجة البيضاء لما فيه خير المسلمين جميعاً.. والله سبحانه وليُّ التوفيق.. ?
... القيصر $ | |
|
| |
{ القيصر }
عدد المساهمات : 311 النقاط : 517 الشُّهرة : 3 تاريخ التسجيل : 20/03/2011 العمر : 35 المكان : سوريا - حمص - مقيم في السعودية الجنس : المزاج : اعتباراً من الغد
| موضوع: رد: ملمحمة جلجامش البابلية السبت 25 يونيو 2011, 8:46 pm | |
| المقطع الثاني بِسْمِ اللهِ الرَحْمَن الرَّحِيْم كلمَـــــةٌ أولــــــى هذا الكتابُ هو رؤيا حديثةٌ لموضوعٍ قديمٍ.. الموضوع هو قصّة جلجامشَ ذلكَ الأثر الملحميُّ الذي خلّدَتْهُ الرِّقمُ الطينيَّةُ البابليَّةُ.. والرؤيا هي النتاجُ التطبيقيُّ للأُسُسِ العامَّة للفكْرِ القصديِّ على نصِّ الملحمَةِ وعلى نصوصٍ أخرى ذات قيمةٍ عليا تجري في مجراها وتشيرُ إليها من أوضح طريقٍ.. ونحن نقرّر أنّه بصَرْفِ النظرِ عن الإنكارِ الضمنيِّ الذي يثيرُهُ لدى المتلقّي العنوانُ الفرعيُّ لهذا الكتاب القاضي بقيامِ أسلافِنَا القُدامى برحلاتٍ فضائيةٍ.. نقرِّرُ أنَّ ما انتهى إليهِ النيليُّ يحملُ من الوجاهَةِ والمصداقيّة حدَّاً يبعثُ على التأمُّلِ في المفاهيم القصدية التي أفضَتْ إلى هكذا نتائجٍ إن لم يبعثْ على ضرورةِ مراجعَةِ أقوال الآثاريين بخصوص العديد من القضايا التي تتعلّقُ بهؤلاء الأسلافِ ومدى ما لديهم من أفكارٍ تتساوقُ مع آخر ما توصّل إليه العلم الحديثُ على الأصعدةِ كافَّةً.. وسيطّلع القارئ في غضون هذا الكتاب على بعضٍ من هذه الأفكار المتَّسقة بشكلٍ يثيرُ العجبَ ويحوَّل النَّظْرَةَ للملحمَةِ إلى وجهةٍ أخرى هي غير ما اعتادَهُ المثقّفُ المتابعُ لاستنتاجات الباحثين عنها.. ولا يفوتنا أن نذكرَ أن هذا الكتابَ قد رُفِضَ من قبل الرقيب الثقافي في وزارة الثقافة في العراق، وكان هذا قبل عدَّةِ أعوامٍ، وكانت الحجّة هي في مخالفته لما أسماه الرقيب بالمتفق عليه بين علماء الآثار كالقاموسِ السومريِّ أو الموقف من بعض القضايا التي يدّعون حسمها.. والرقيبُ بهذا الموقف قد غضَّ النظرَ عن أنَّ الكتابَ هو في جزءٍ منه محاكمةٌ لهذا القاموس من جهةٍ ونقدٌ حقيقيٌّ لمقولات الآثاريين من جهةٍ أخرى.. وعلى ذلك فقد انتشرت مخطوطة الكتاب الأولية عبر الوسط الثقافي في العراق وتلقفها المثقفون بحماسٍ مستفيضٍ وصارت معلماً حوارياً في المنتديات الثقافية والمجالس الفكرية كشأن باقي المؤلفات الإثارية للمفكّر العراقي المبدع عالم سبيط النيلي رحمه الله تعالى. وقد جهدنا غايةَ الجهدِ من أجلِ إعدادِ هذا الكتاب بالاستناد إلى المخطوطة التي تركها مؤلِّفُها رحمه الله.. وفي الأثناء قُمْنا بتصحيحها وإعادة صياغة بعض الفقرات فيها وإضافةِ نصوصٍ لاحقةٍ كتبها النيلي بعد تأليفه لها بمدّةٍ، وأثبتنا هذه النصوص كملاحقٍ في آخر الكتاب.. ونحنُ واثقون أن القارئ الكريمَ سيجدُ ما لم نتداركه من أخطاءٍ أخرى، فنرجو منه التفاعل معنا وتنبيهنا إليها لنأخذَ بها في الطبعات القادمة إنشاء الله.. إنَّنا نقدُّم الشكر خالصاً إلى دار المحجة البيضاء ممثلةً بشخص مديرها الأخ أحمد الخرسا على تكفُّلِها بطباعةِ هذا الكتاب وإخراجه بالشكل الذي ساوقَ مضمونَه وجعل منه تحفةً جميلةً قلباً وقالباً.. نسأل الله تعالى أن يأخذ بيديه من أجل خدمة الفكر الإسلاميَّ الأصيلَ ويوفقه وأخوته في المحجة البيضاء لما فيه خير المسلمين جميعاً.. والله سبحانه وليُّ التوفيق.. ?
... القيصر $ | |
|
| |
{ القيصر }
عدد المساهمات : 311 النقاط : 517 الشُّهرة : 3 تاريخ التسجيل : 20/03/2011 العمر : 35 المكان : سوريا - حمص - مقيم في السعودية الجنس : المزاج : اعتباراً من الغد
| موضوع: رد: ملمحمة جلجامش البابلية السبت 25 يونيو 2011, 8:48 pm | |
| القسم الخامس الفَصْلُ الأوَّلُ رُؤْيَا عَامَّةٌ لِلْمَلْحَمَةِ احْتِسَابُ فَرَقِ الجَّاذِبِيَّةِ تَظْهَرُ الحقائقُ المختلفةُ في كثيرٍ من الأحيانِ كأفكارٍ ضمنيَّةٍ في النصِّ. وَهَذِهِ واحدةٌ من خصائصِ النصِّ الأدبيِّ عموماً والنصِّ الشعريِّ خاصَّةًَ. فالأديبُ يَفْعَلُ ذلِكَ على مُرِّ الحُقَبِ التاريخيَّةِ، حيث يضمِّنُ النصَّ حقائقَ معيّنةً ووقائعَ فعليةً ويضيفُ عليها رؤيتَهُ الخاصّةَ وهواجسَهُ ومشاعرَهُ. وَيقومُ الأديبُ بتحريكِ الجماداتِ ومخاطبةِ النجومِ أو الكائناتِ الخفيّةِ أو النهرِ ويُلقي على لسانِ حالها إجاباتٍ، وَقَدْ يفتعلُ وجودَ (صاحبٍ) له أو(أصحابٍ) كَمَا جَرَتْ عليه عادةُ الشعراءِ في أغلبِ الأممِ وخاصّةً أهلِ المشرقِ والعربِ. والأمثلَةُ عليها لا تُحْصَى عدداً، فهي منتشرةٌ في ديوان العرب بالألوف. هذا مثالٌ: قَالَ ساروا وأمعنوا واستقلوا وبكرهي لو استطعْـتُ سبيـــلا فمن هذا القائلُ؟... إنّه الرّبعُ. فالبيّتُ السّابقُ هو: سائلا الرّبعَ بالبُلى وقـولا هِجْتَ شَـوقاً لي الغـداة طويـلا أين أهلٌ حلّوكَ إذ أنت مُسْرٍ وربّهـم آهـلٌ أراك جميــــلا (الأبيات من شعر ابن أبي ربيعة ـ عن زهر الآداب) ويحدِثُ مِثلُ ذلِكَ في الشّعرِ الحرِّ والنثرِ سواءً بسواءٍ كَمَا في قول الشّاعر المعاصر: أخوةُ يوسفَ أَكَلوا يوسفَ لَمْ يأكُلْهُ الذئبُ أخوةُ يوسفَ اجتمعوا على مائدةِ الحُبِّ فنحن ندرِكُ فوراً من هذِهِ المقاطعِ الجزءَ الحقيقيَّ والجزءَ المُضافَ من خيالِ الشّاعرِ. فالجزءُ الحقيقيُّ هو أنَّ الشّاعرَ اشتاقَ إلى الأحبَّةِ فسألَ الرّبعَ (ربّما فعلاً)، والجزءُ المُضافُ من خيالِهِ هو إجابةُ الرّبعِ: (قَالَ ساروا وأمعنوا…الخ). وكذلك في القطعةِ الثانيةِ.. فإنّ قصّةَ يوسفَ قصّةٌ تاريخيةٌ معلومةٌ، والجزءُ المضافُ عليها هو تخيّلُهُ أنّهم أكلوا يوسفَ ليعبِّرَ عن الحسدِ حينَمَا يأكلُ النّاسَ وينفي التّهمةَ عن الذئبِ البريءِ أصلاً من دمِهِ، فكأنَّ الآكلَ الحقيقيَّ هو الحسدُ الذي عبَّر عنه بالحُبِّ لأنّه عبارةٌ عن (حبِّ الذّاتِ) بدرجةٍ تبلغُ حدَّ الحالةِ المرضيةِ. فإذا افترَضْنا أنَّ مثلَ هذِهِ النّصوصِِ اندثرتْ والحضارةَ لا سمحَ اللهُ أُبيدَتْ وعَثَرَ الآثاريون على القِطَعِ التي تتضمَّنُها بعد آلافٍ من السّنين، فإنَّ عمليةَ التمييزِ بَيْنَ الجزءِ الحقيقيِّ وَبَيْنَ الجزءِ المُضافِ من خيال الشّاعر ستكونُ عسيرةً عليهم لأنَّّهُم لا يعلمون ما المقصودُ (بالرّبعِ) مثلاً.. هل هو كائنٌ سماويٌّ أم أرضيٌّ… أم غَيْرُ ذلِكَ وخاصَّةً مَعَ عدمِ إدراكِ المعانيَّ الدّقيقةِ لبقيّةِ المفرداتِ. وهكذا فنحنُ الآن نُعاني من مُشكلةٍ مُشابهةٍ. فليس ثمّةُ تفريقٍ بَيْنَ ما هو حقيقيٍّ من أحداثِ المَلْحَمَة وَبَيْنَ ما هو مُضَافٍ من خيالِ الشَّاعرِ. ومثِْلُنا في ذلِكَ مثلُ (علماءِ آثارٍ) يأتونَ وفقَ الفرضيّةِ السّابقةِ بعد آلاف السّنينِ، فيقولُ أحدُهُم بشأنِ قطعةِ النثرِ: (إنّها أسطورةٌ طريفةٌ تؤكِّدُ عادةَ القُدامى في أكلِ لحومِ البشرِ، فهناك أخوةٌ اجتمعوا على مائدةِ أخيهم المُسمَّى (يوسّف) وأكَلَوه، والظّاهرُ أنَّ تِلْكَ الحالات تَحْدِثُ في المجاعاتِ، وَقَدْ عَثَرْنَا بالفِعْلِ على ما يؤكِّدُ حصولَ مجاعةٍ لمدَّةِ سبعِ سنينَ في عَهْدِهِم!!). نعم.. إنَّ نتائجَنا الآثاريةَ تشبَهُ إلى حدٍّ كبيرٍ مثلَ هذِهِ الأقوالِ والنّتائجِ، والتي يمكنُ للمرءِ اكتشافُ تناقضِها مَعَ نفسِها ومع النِّصِّ الأصليِّ كَمَا في هذا المِثَالِ. وهكذا نلاحظُ مِثْلَ هذِهِ النّتائجَ الغريبةَ عن النصِّ في أبحاثِ علماءِ الآثار. فَقَدْ ذكروا أنَّ رحلةَ جلجامش الأولى كَانَتْ إلى غاباتِ الأرزِ في لبنانَ حيث يَقطِنُ المارِدُ خمبابا، في حين أنَّ المعدّاتِ والأسلحةَ والمسافةَ والزَّمنَ ومواصفاتِ الغابةِ كلَّها لا تطابقُ هذِهِ النّتيجةَ من أيِّ وجهٍ من الوجوهِ. لَقَدْ عَزَمَ جلجامشُ على الرّحيلِ إلى موضعٍ ناءٍ جداً عن هذا العالَمِ، وَلَمْ تكنْ رحلتُهُ على الأرضِ قطعاً، وَلِذَلِكَ قامَ كإجراءٍ علميٍّ أوليٍّ بحسابِ فارقِ الجّاذبيّةِ بَيْنَ الأرضِ والكوكبِ الذي عزمَ على غزوِهِ. ... القيصر $ | |
|
| |
{ القيصر }
عدد المساهمات : 311 النقاط : 517 الشُّهرة : 3 تاريخ التسجيل : 20/03/2011 العمر : 35 المكان : سوريا - حمص - مقيم في السعودية الجنس : المزاج : اعتباراً من الغد
| موضوع: رد: ملمحمة جلجامش البابلية السبت 25 يونيو 2011, 8:51 pm | |
| المقطع السادس ومن المحتملِ، بَلْ (المؤكّدِ قرآنيّاً) كَمَا سَنَرَى أنَّ هناك غزواً مضادّاً مِنَ الفضاءِ استلزمَ القيامَ بمهمَّةٍ مثلِ هذِهِ لإنقاذِ العالَمِ. فَقَدْ قَالَ جلجامش: ذلِكَ الذي ملأ اسمُهُ البلدانَ بالرّعبِ عَزمتُ على أنْ أغلِبَهُ في (غابةِ الأرزِ) وكانت أسلحةُ هذا العدوِّ مدمّرةً لا طاقةَ لأحدٍ بها، بَلْ لَمْ يَرَهُ أحدٌ من قَبْل، بَلْ أكثرُ من ذلِكَ أنَّ الرّحيلَ في الفضاءِ في ذلِكَ الزّمانِ هو فكرةٌ مجنونةٌ، وَلِذَلِكَ نَصَحَهُ شيوخُ (أوروكَ) ونَصَحَهُ أنكيدو، وبالَغوا في النّصحِ، ولكنَّ جلجامشَ كَانَ مُصِرّاً على السَّفر. كانوا يقولون: كيفَ سَنَدخِلُ غابةَ الأرزِ وإنَّ حارسَها مقاتلٌ قويٌّ وهو لا ينام! ولكنَّ جلجامشَ يعلَمُ أنّه قادرٌ على غزوِ الفضاءِ.. فكيف يمكنُ إهمالُ هذِهِ الصّفةِ التي لا يتّصفُ بها سوى الرّجالِ الإلهيين؟: فَتََحَ جلجامشُ فاهُ وقالَ لأنكيدو: يَا صديقي مَنْ ذا الذي يستطيعُ أنْ يَرْقَى إلى السَّمَاءِ؟ ومن الواضحِ أنَّ هذِهِ الغابةَ لَيْسَتْ غابةَ شجرِ الأرزِ، وإنّما هي غابةٌ من صخورٍ وبتشكيلاتٍ غريبةٍ على كوكبٍ أو تابعٍ قمريٍّ ـ كَمَا سنلاحِظُهُ بعد قليلٍ. وَلِذَلِكَ أصدرَ جلجامشُ أوامرَهُ إلى الصُّناعِ ليعملوا أسلحةً بأوزانٍ تلائمُ الجاذبيةَ في ذلِكَ الموقعِ الفضّائيِّ. لَقَدْ اعتُبِرَتْ هذِهِ الأوزانُ الغريبةُ للسّيفِ والفأسِ من مُبَالَغَاتِ الكاتِبِ. بَيْدَ أنَّ الأمرَ لا يمكنُ قبولُهُ على هذا النحوِ، لأنَّ أوزانَها غيرُ منسجمةٍ مَعَ الإنسانِ حتّى لو كَانَ ضخماً مثلَ جلجامشٍ. فالكاتِبُ لَيْسَ مختلَّ العَقْلِ إلى هذا الحدِّ.. ولا آشورَ بانيبالٍ ولا الملوكَ الآخرين الّذين اقتنوا نُسَخاً من المَلْحَمَة في مكتباتِهم الخاصّةِ وقصورِهِم الملكيةِ. إنّ جلجامشَ (رَجُلُ مُبَارَكٌ) وذِكْرَهُ بَرَكَةٌ ومَديحَهُ قُرْبٌ من الله كَمَا ورد في الكسرةِ (8) من ألواحِ (نفر) حيث قَالَ: يا جلجامشُ يا سيّدُ إنَّ مديحَكَ خَيرٌ وَبَرَكَةٌ/ الملحق3 ـ طه باقر(190). بَلْ جاءت حساباتُ الأوزانِ متطابقةً مَعَ بعضِها البعضِ بغضِّ النّظرِ عن حاملِ الأسلحةِ. فلكي يمشي المرءُ بصورةٍ طبيعيةٍ على القمرِ مثلاً فعليه أنْ يزيدَ من وزنِهِ بأثقالٍ معيّنةٍ ستَّ مراتٍ، لأنّ جاذبيّةَ القمرِ هي سُدِسُ جاذبيّةِ الأرضِ. كذلك الأمرُ عِنْدَ الضّربِ بالسّيفِ أو الفأسِ إذ يتوجّبُ أن يكونَ وزناهُمَا ملائِمَينِ ومتضاعِفَينِ بنفسِ النّسبةِ. وهذا ما فَعَلَهُ جلجامشُ في رحلتِهِ هذِهِ فقط، وَلَمْ يَفْعَلْ مثلَهُ في قتالِهِ للثّورِ السّماويِّ رُغْمَ ضخّامتِهِ. لماذا؟ لأنّ هذا الثّورَ كَانَ على الأرضِ في (أوروكَ) العاصمَةِ، فلنلاحِظَ طبيعةَ هذِهِ الأوزانِ الغريبةِ: صَدَرَتِ الأوامِرُ إلى صَانِعي السِّلاحِ فاجتَمَعوا وَتَشَاوَروا صَنَعوا أسلحةً عظيمةً وَسَبَكوا فؤوساً تَزِنُ كلٌّ مِنْهَا ثلاثُ وزناتٍ وَسَبَكوا سِيوفاً كَبيرَةً كلٌّ مِنْهَا يَزِنُ وزنتين وَقَبَضَاتُها ثَلاثونَ منّاً وسِيوفاً مِنْ ذَهَبٍ زِنَةُ كلٍّ مِنْهَا ثَلاثينَ منّاً و(أغمادها) ثلاثون منّاً الوزنةُ البابلية حسب العلماء تساوي (60) منّاً، والمَنُّ يساوي تقريباً نصفَ كغم. وزن الفأس إذن = 90 كغم. لكنَّ وزنَ السّيفِ الكلّي مَعَ المقبضِ والغمدِ هو: وزنتان للسّيف + 30 منّاً للقبضةِ + 30 منّاً للغمد = 90 كغم أيضاً. فإذا أرادَ المرءُ أن يتحرّكَ بالسّيفِ والفأسِ فعليه أن يَحْمِلَ (180) كغم عدا الخنجر والأدوات الأخرى. ويمكنُ القولُ أنّ الحساباتِ جَرَتْ على مُضَاعَفَةِ الوَزْنِ إلى ما يَقْرُبُ من ثمانيةِ عشر مرّةً لتحقيق الضّربِ بالسّيف والفأس في جاذبيّةٍ منخفضةٍ تقِلُّ عن جاذبيةِ الأرضِ ثمانية عشر مرّةً. وإذن فالمساواةُ المُتعمَّدةُ بَيْنَ وزنِ السّيفِ والفأس قَدْ حُسَِبَتْ فيها قوَّةُ الذِّراعِ في هذِهِ الجاذبيةِ بغضِّ النَّظَرِ عن الحامِلِ، فكأنَّ الذراعَ يحتاج إلى (90) كغم من الوزنِ مهما كَانَ نوعُ السّلاحِ. أين تقعُ الغابةُ مأوى خمبابا؟ ... القيصر $ | |
|
| |
{ القيصر }
عدد المساهمات : 311 النقاط : 517 الشُّهرة : 3 تاريخ التسجيل : 20/03/2011 العمر : 35 المكان : سوريا - حمص - مقيم في السعودية الجنس : المزاج : اعتباراً من الغد
| موضوع: رد: ملمحمة جلجامش البابلية السبت 25 يونيو 2011, 8:55 pm | |
| المقطع السابع
لو كَانَ العمودُ الأوّلُ من اللوحِ الثالثِ سالماً لكنّا نُدركُ وصفاً أدقَّ لهذه الغابة، لكنْ لَمْ يبقَ منه إلاَّ النّصائحُ المكرَّرةُ له بعَدَمِ المغامرَةِ: ….عَلامَ أنتَ راغبٌ في تحقيقِ هذا المَطلبِ وَلِمَ عَقَدْتَ العَزْمَ على الذهابِ للغابَةِ..؟ وينقصُ العمودُ الثاني أيضاً، إذ ينخرمُ منه ما لا يقل عن (25) سطراً… ولكنْ يتكرّرُ النّصحُ هذِهِ المرّةَ مشفوعاً بعددِ السّاعاتِ المضاعفةِ التي تفصلُ بَيْنَ (أوروكَ) وَبَيْنَ الغابة: فأجابَ شُيَّبُ أوروكَ ذاتِ الأسوَاقِ وقَالوا لِجلجامشَ يا جلجامشُ أنتَ شابٌّ وَقَدْ حَمَلَكَ قلبُكَ مَدَىً بَعيداً وَأنتَ لا تعرِفُ عَاقِبَةَ مَا أنتَ مُقدِمٌ عليهِ سَمِعنَا أنَّ خمبابا بُنيَتُهُ غريبةٌ فَمَنْ ذا الذي يَصمِدُ أمامَ أسلحَتِهِ والغابةُ تَمتدُّ عشرةَ آلافِ ساعةٍ مضاعفةٍ؟ ويظهر هنا تناقضُ الباحثين حينَمَا قالوا أنَّ الغابةَ تبعدُ (1600) كم وهي تقربُ من جبالِ لبنانَ!. لأنّ السّاعةَ المُضاعفةَ البابليةَ وكما ورد في هامشِ العمودِ اللاّحق تساوي فرسخين من المسافات، وحددّها طه باقر على إنّها (10.8) كم. وإذن فبُعدُ الغابةِ يساوي: 10.000 × 10.8 = 108000 مائة وثمانية ألف كم. إذن.. فَقَدْ أخطأ الشُّرَّاحُ ومنهم (طه باقر) حينَمَا حسبوا المسافةَ (1600) كم فقط، حيث قَالَ في الهامِشِ: (وهي تساوي المسافةَ من أوروكَ إلى جبالِ لبنانَ)، ذلِكَ لأنّه ذَكَرَ هذا الرَّقمَ بناءً على المسيرِ الفعليِّ الذي وَجَدَهُ في اللوحِ الرّابِعِ. فهذا العمودُ لا يتضمّنُ كلَّ ساعاتِ المسيرِ لأنّ المسيرَ ابتدأ في العمودِ الثالثِ والذي تَلَفَ منه ثلثي الحَقْلِ الرّابع والذي يليه كاملاً، وَلَمْ يظْهَرْ النّصُ إلاَّ في اللوحِ الرّابعِ وبدايتُهُ مخرومةٌ كلُّها.. فَظَهَرَ أوَّلُ ما ظَهَرَ بعبارَةِ: وَبَعْدَ سَفَرِ عِشرينَ سَاعةٍ مُضاعَفَةٍ تَبَلَّغا بِقَليلٍ مِنَ الزّادِ وَبَعْدَ ثَلاثينَ سَاعَةٍ مُضَاعَفَةٍ تَوَقَّفَا لِيَمضيَا اللَّيلَ ثُمَّ انطَلَقَا سَائِرينَ خَمسينَ سَاعةٍ مُضَاعَفَةٍ أَثْنَاءَ النَّهَارِ فقاموا بحسابِ ما بقيَّ من المسيرِ ذاهلينَ عن المسافَةِ الفعليَّةِ المذكورةِ سابقاً والتي قَدْرُها عشرةُ آلافِ ساعةٍ مُضاعَفَةٍ. وعلى طريقتِهِم في اعتبارِها مُضاعفَةً فعلاً يتوجَّبُ ضَرْبُ الرَّقمِ السّابِقِ كَمَا يلي: 108000 × 2 = 216000 مائتان وستة عشر ألف كم وَهَذِهِ المسافةُ فضائيَّةٌ بالتأكيد لأنَّ محيطَ الأرضِ كلِّها لا يبلغُ عشرَ هذا الرّقمِ. ويدلُّ على ما ذَكَرْنَاهُ السَّطرُ التّالي لساعاتِ المسير أعلاه. حيث ذَكَرَ هذا السّطرُ أنَّ السّفرَ إلى هذِهِ النّقطةِ استغرقَ شهراً ونصف الشّهر، ولكنَّهُ قطَعَهُ في ثلاثةِ أيام. قَالَ طه باقر: (وتكونُ مسافةُ ثلاثِ مراتٍ خمسين ساعةً مضاعفةً نحو 1600 كم وهي المسافةُ التقريبيةُ بَيْنَ بلاد بابل وجبال لبنان)/ملحمة كلكامش104. فلا وجودَ لثلاثِ مرّات في النِّصِّ، ومجموعُ السّاعات المذكورُ فيه (مَعَ إهمالِ العشرة آلاف) هو: 20 + 30 + 50 = 100 ساعةً مضاعفةً. فمِنْ أينَ جاءَ بالرّقمِ (150) ساعةً مضاعفةً؟ لأنَّ مُضاعَفَ (100) ساعة هو(200) ساعة! يبدو أنّه أرادَ اعتبارَ كلِّ يومٍ من الأيّام الثلاثة بمقدارِ خمسين ساعة! من أجلِ أنْ يُطابِقَ المسافةَ مَعَ جبالِ لبنانَ بأيّةِ صورةٍ جرياً وراءَ تقديراتِ الغربيين. لكنَّ النصَّ يقولُ إنَّ أيّامَ السّفرِ هي (45) يوماً لا ثلاثةَ أيامٍ، وإنّما قَطَعَهَا جلجامشُ بثلاثةِ أيّامٍ وبطريقتِهِ الخاصّةِ. وإذن فَقَدْ كَانَ يمتلكُ سُرُعَاً فائقةً. ويمكنُ تقديرُ سرعتِهِ الفائقةِ والتي استعملَ لها آلاتٍ معيّنةٍ (كَمَا سيأتي) على نَفْس تقديرِهِم.. فالحصانُ يمكنُ أن يسيرَ بسرعةِ 60 كم/ساعةٍ. لكننا لا نريدُ المبالغةَ فلنفرِضَ كَمَا قالوا: كلُّ يومٍ وَلَيْسَ كلَّ ساعةٍ يسيرُ جلجامشُ 60 كم في الحالةِ الاعتياديةِ. والنِّصُّ يقولُ إنَّهُ سَارَ بثلاثة أيّام ما يُسَارُ بِهِ عادَةً في (45) يوماً ( أي أنَّ السرعةَ تُضاعَفُ بمقدار 45\3 = 15 مرّةً). وإذن فالسرعةُ على ذلِكَ = 900 تسعمائة كم\يومٍ. وبالطبع لا تمكنُ مضاعَفَةُ السرعِ إلى هذا الحَدِّ من غَيرِ وسائِلٍ علميَّةٍ. هذا إذا سلَّمْنَا بترجُمَةِ الألفاظِ على ما ذَكَرَوهُ. فإذا رَجَعْنَا إلى النِّصِّ الذي يَرِدُ فيه اسمُ (خمبابا)، كَمَا في العمودِ الثّالثِ من اللوحِ الثّالثِ في السَّطرِ الخامِسِ لاحَظْنَا اختلافاً في التّرجُمَةِ، والسّطْرُ هو: إيلو ـ خوا ـ وا ـ دا ـ بي ـ نو تَرْجَمَهُ د. سامي الأحمد إلى: (خواوا المحارب)، بَيْنَمَا تَرْجَمَهُ سبايزر إلى: (في الغابة يعيش خواوا العنيف). لَقَدْ تُرْجِمَ اللفظُ (إيلو) إلى (إلهٍ) أو (ربٍّ) بحسب الموضع، وَقَدْ تُرجِمَ هنا إلى محاربٍ أو عنيفٍ. ولكن المقطع (دابي ـ نو) من أسماءِ المشتري. نصَّ على ذلِكَ الأحمدُ في الهامشِ في ص156. ومن الممكنِ أن يكونَ معنى الاسمِ هو المختفي أو المختبئ في تابعِ المشتري، ذلِكَ لأنّ الّلفظَ (خالبو) الذي يعني غابةً يأتي بمعنى (محلِّ الاختفاءِ عِنْدَ الشُرّاح) في حين أنّ هناك لفظاً آخرَ يعني غابة هو (كيشتوم). ويؤكِّدُ ذلِكَ ما نراه من ظهورٍ (لغابةِ الأرزِ) في نهايةِ المَلْحَمَة قُبيلَ وصولِ جلجامش إلى (أوتونوبشتم) القاصي. فإذا كَانَتْ الرّحلةُ الأولى إلى غابةِ أُرْزٍ فما الذي جاء بالغابةِ مرّة أخرى بعد إنْ عَبَرَ في الرّحلةِ الثانيةِ البحارَ ومياهَ الموتِ؟. ... القيصر $ | |
|
| |
{ القيصر }
عدد المساهمات : 311 النقاط : 517 الشُّهرة : 3 تاريخ التسجيل : 20/03/2011 العمر : 35 المكان : سوريا - حمص - مقيم في السعودية الجنس : المزاج : اعتباراً من الغد
| موضوع: رد: ملمحمة جلجامش البابلية السبت 25 يونيو 2011, 8:56 pm | |
| المقطع الثامن الواقعُ أنّ الرّحلةَ الثانيةَ كالأوّلى فضائيةٌ. ولقد مرَّ جلجامشُ بنفس المحطّات بعد إن أمَّنَ الطّريقَ في الرّحلةِ الأولى بالقضاءِ على (خمبابا). ولقد وُصِفَت الغابةُ هناك كَمَا هي هنا بأوصافٍ متشابهةٍ تفيدُ في أنّها غابةُ صخورٍ لا أشجارٍ نباتيةٍ وإنْ كَانَتْ على هيئةِ أشجارٍ، وهذا مَعَ افتراض صحّة ترجمة (أرز). ومثلُ هذا التصوّرِ عن أقمارِ المشتري وزحل ثابتٌ علمياً الآن، فإنّها مليئةٌ بالتشكيلاتِ الصّخريةِ الملونّةِ كالأشجار بمناظرَ تُخلبُ الألبابَ، فانظر صورة (تيتان) و(ميماس) من توابعِ زحلَ في الصّورِ المرفقةِ في نهايةِ هذا البَحْث. لَقَدْ ذَهَلَ الشُرّاح عن الوحدةِ الموضوعيةِ للملحمةِ. فالسّفينةُ التي بناها من خشبِ الأُرْزِ في الرّحلةِ الثانية وطلاها بالقيرِ أظهَرَ النصُّ فيما بعدُ أنّها سفينةٌ صخريةٌ!!. فَقَدْ رآها أوتو ـ نوبشتم عن بُعدٍ وتسائل قائلاً: (لماذا تماثيلُ صَخرِ السّفينةِ مُحَطَّمَةٌ) 15/ع/ل10 ما الذي جاء بالتماثيلِ والصّخورِ هنا؟ وماذا تعني تِلْكَ العبارةُ؟ إذ المفروضُ أنّ السّفينةَ من خشبٍ ومطليةٍ بالقار وسائرةٌ في البَحْرِ. لَقَدْ كَانَ الشُرّاح في حيرةٍ إزاء النّص. فالملاح (أورشنابي) يمتلك صوراً أو تماثيلَ الحجر، والتي بها ... القيصر $ | |
|
| |
{ القيصر }
عدد المساهمات : 311 النقاط : 517 الشُّهرة : 3 تاريخ التسجيل : 20/03/2011 العمر : 35 المكان : سوريا - حمص - مقيم في السعودية الجنس : المزاج : اعتباراً من الغد
| موضوع: رد: ملمحمة جلجامش البابلية السبت 25 يونيو 2011, 8:57 pm | |
| المقطع التاسع يمكنُ عبورُ مياهِ البحارِ: هناكَ أورشنابي ملاّحُ أوتو ـ نوبشتم وَعِندَهُ صورُ الحَجرِ وهو الآنُ في (الغابة) ولكنَّ الأحمدَ ترجمَهَا هكذا: مَعَهُ تماثيلُ الصّخرِ وهو يلتقِطُ الأرزَ في وَسَطِ الغَابَةِ/29/ع2 يظهرُ لنا الأرزُ نَفْسُهُ بعد ذلِكَ على أنَّهُ أشجارٌ صخريّةٌ وَلَيْسَ الأرزَ النباتي، وربّما يعتقد الشُرّاح أنَّ كثيراً من الأسْطُرِ والعبارات هي من الحشوِ أو اللّغوِ أو الخيالاتِ التي لا معنى لها وضعَهَا الكاتبُ، وما ذلِكَ إلا بسببِ الخَلَلِ في دقَّةِ التّرجُمَةِ. ففي البيتِ (38) وَرَدَتْ عبارةٌ للملاَّحِ وهو يلومُ جلجامشَ قائلاً: لأنّكَ حَطَّمتَ التّماثيلَ الصّخريّةَ وأنتَ تجمعُ الأرزَ ولكنَّ باقرَ ترجمَهَا هكذا: لأنّكَ حَطَّمتَ صُورَ الحَجَرِ وأتلفْتَهَا فهل تِلْكَ صورُ أو تماثيلُ (رسومُ) للحجرِ أم أنّ التّماثيلَ نفسَهَا حجريةٌ؟ ووفقَ الفَرْضِ الذي ذَكَرْنَاهُ فإنّ الرّسومَ يجبُ أنْ تعودَ للأرز نفسِهِ، أي أنّها مخطّطاتٌ للغابةِ وألاَّ ما علاقتُها بالسّفرِ حينَمَا يقول: حَطَّمتَ صورَ حَجَرِ السّفينةِ فكيفَ يُمكِنُ العُبورُ؟ لكن يمكنُ الجمعُ بَيْنَ التّرجمتين وهو الأمرُ الذي استبعدهُ الشُرّاح. فالمترجمُ في الواقعِ يقوم بشرحِ النصِّ لا الترجمَةِ وحسب، لأنّه يحاولُ أن يرتِّبَ الكلامَ بحيثُ يكونُ متناسقاً. ولمّا كَانَتْ أشجارُ الأرزِ عندهم نباتيةً فمن غيرِ المعقولِ أن يجعلَ التّماثيلَ خاصّة بالأرزِ، فأمّا يضيفُ مفرداتٍ من عنده لإتمامِ المعنى مثل (وأنت تَجْمَعُ) -الأرز أو يحذف (الأرز) من الأصلِ ويجعلُ (صخريّةً) صفةً للتماثيلِ. تبقى التّرجمةُ غيرَ دقيقةٍ في الحالتين. نلاحظُ الاختلافُ في السّطرِ الهامِّ التّالي المرّقم (36) الذي يربط بَيْنَ الرّسوم (الخرّائط) وَبَيْنَ إمكانيّةِ العبورِ: وإذا تحَطّمَت صورُ الحَجَرِ فلا يمكنُنَا العُبورُ/-طه باقر. وعلى النّسخة الآشورية: إنّ تماثيلَ الأرزِ مُهشمّةٌ و….. الأرز…/الأحمد. (النّقاطُ هنا مفرداتٌ مخرومةٌ لا يمكن قراءتها). ومن حسن الحظِّ أنَّه هنا وهنا فقط انخرم اللّوحُ.. لأنّ ذلِكَ اضطرّ المترجمَ إلى إضافةِ التّماثيلِ للأرز، وهي المرّةُ الوحيدةُ في كلِّ المَلْحَمَة. إذن التّماثيلُ هي تماثيلُ الأرزِ لا غيرِهِ. من جهةٍ أخرى فإنّ أشجارَ الأرزِ المزعومةِ في لبنانَ لا علاقةَ لها مطلقاً بما تذكُرُهُ المَلْحَمَة من أشجارٍ. ففي الّلوحِ الرّابعِ حيثُ وصلا بوابةَ الغابةِ جاء النصُّ بوصفٍ محدّدٍ لتلك الأشجارِ: وكانَ مَدخَلاً عَجيباً بَهَرَهُما مَنظَرُهُ إنَّهما لَمْ يَصِلا إلى الغابةِ… ولكن أشجارَ الأرزِ كَانَ منظرُهَا عَجيباً كَانَ عُلُوُّهَا اثنين وسبعين ذراعاً. إذا افترضنا إنّ الذّراع = نصف متر، فإنّ طول الأشجار = 36 متراً!!. ومعلومٌ أنّ أعظمَ أشجار اليكالبتوز العالية لا تبلغ 12 متراً. وإذن فتلك الأشجارُ هي أشجارٌ صخريّةٌ لا نباتيةٌ، وهو ما سنلاحِظُهُ في العنوان التّالي. ولهذا السّببِ جاء الفِعلُ (كسَّرَ) أو(هشَّمَ) مَعَ أشجارِ الأرز، ولو كَانَتْ من نباتٍ لاستعمل الفعل (قَطَعَ) أو(اقتَلَعَ)، وَذلِكَ عندما قَامَ جلجامشُ غاضباً بتكسيرِ التّماثيلِ التي هي على صورةِ أشجارٍ فحطَّمَ خلال ذلِكَ صّور حجر الأرز. وإذن فالنّص في السّطر (38) لَيْسَتْ ترجمته: (حطَّمْتَ التّماثيلَ الصّخريَّةَ وأنت تَجْمَعُ الأرز!) بَلْ: لأنّك أتلفت رسوم الغابات الصّخريّة وأنت تكسر أشجارَهَا. هذا إذا لَمْ تكن الغابات هي في الأصل (جزر) وهو ما يؤديه أحياناً الّلفظ الأصلي. غَابَةُ أُرْزٍ أَمْ غَابَةُ الأَشْجَارِ الصَّخْريَّةِ؟ إنّ السّفرةَ إلى مكان خومبابا بعيدةٌ وَقَدْ أواجهُ معركةً لا تُعرف وسوف أسيرُ بدربٍ لا أعرفُهُ من يومِ أذهبُ حتّى أعودَ وحتّى أصلَ إلى غابة الأرز وحتّى أقتلَ خومبابا (دابينو) لأُزيلَ كلَّ شّرٍ على الأرْضِ يمقتُُهُ أيلو شمش وهكذا قَالَ جلجامشُ وهو يودِّعُ أمَّهُ الحكيمَةَ (ننسون) من أوّل اللوح الثالث. وبالطّبع لا يمكنُ لأيّ ملكٍ أنْ يدَّعي جهلَهُ بالطّريقِ لو كَانَ هدفُهُ على الأرضِ.. فما أكثرُ الأدلاَّءِ الذين تمكنُهُ الاستعانةُ بهم من داخِلِ المملكَةِ وخارجِهَا. وما دام قَدْ قَالَ: (وسوف أسيرُ بدربٍ لا أعرِفُه)، فهذا يعني أنّ الجميعَ لا يعرفونَهُ. إنّ تحديدَ موقعِ الغابةِ وطبيعتِها هامٌّ جدّاً. فحينما تظهر نَفْسُ الغابةِ في الّلوح التّاسع (وَذلِكَ بعد مضيّ "12" ساعة مضاعفة) رآها جلجامش بطريقةٍ تثبتُ الفَرْضَ الذي ذَكَرْنَاهُ. ذلِكَ لأنّ النّصَّ يفاجئُنَا أنّ جلجامشَ وبَعْدَ مراحلٍ من السّيرِ في الظلمةِ قَدْ رأى (الأرضَ) منيرةً. وَضَعَ الأحمدُ في ترجمتِهِ لفظَ الأرْضِ بَيْنَ قوسين، ووُضِعَتْ عليها علامةُ استفهامٍ عِنْدَ الشُرّاح. ... القيصر $ | |
|
| |
{ القيصر }
عدد المساهمات : 311 النقاط : 517 الشُّهرة : 3 تاريخ التسجيل : 20/03/2011 العمر : 35 المكان : سوريا - حمص - مقيم في السعودية الجنس : المزاج : اعتباراً من الغد
| موضوع: رد: ملمحمة جلجامش البابلية السبت 25 يونيو 2011, 9:01 pm | |
| المقطع العاشر إذ كيف يمكن للمرءِ وهو في الظّلامِ الحالكِ أن يرى الأرضَ كلَّها دفعةً واحدةً منيرةً؟ لا يمكنُهُ ذلِكَ إلاَّ من الفضاءِ. ولكنّها بالطّبعِ لَيْسَتْ الأرضَ التي انطَلَقَ مِنْهَا والتي هي أرضُنا هذِهِ، بَلْ الأرضُ المتوجِّهُ إليها. أمّا طه باقر فَقَدْ ترجَمَها إلى: (وبعد اثنتي عشرة ساعةٍ مضاعفةٍ عمَّ النّورُ). وفي كلِّ الأحوال فإنّ ظهورَ إنارةٍ في وسط الظّلام لا يعني سوى ظهورِ جسمٍ أو كوكبٍ، ذلِكَ لأنَّ الفضاءَ مظلمٌ ظلمةً شديدةً، وهي مسألةٌ فيزيائيةٌ لا يعلمُها كثيرون. فأنت تتصوّرُ أنّك ترى الضّوءَ، ولكنَّ تصوّرَكَ غيرُ صحيحٍ مطلقاً. فالضّوءُ نَفْسُهُ لا يمكن رؤيتُهُ، وإنّما يُرى فقط مصدرُ الضّوءِ والأجسامُ التي يسقِطُ علبها الضّوءُ وينعكسُ عنها. لذلك فإنّ روادَ الفضاءِ عِنْدَ خروجِهِم من السّفينةِ لا يرون شيئاً سوى الظّلام الدّامس لعدم وجودِ أجسامٍ قريبةٍ. وفي حالةِ شروقِ الشّمسِ باتجاهِهِم فإنّهم يرونَ الشّمس فقط، ولكنّهم يرون أنفسهم أيضاً في داخلِ ظلامٍ دامسٍ كَمَا يُرى المُمَثِّلُ في المسرح حينَمَا يُسلَّطُ عليه وحدِهِ شعاعٌ موجَّهٌ من مصباحٍ. إنّ هذِهِ المسألةَ تَحلُّ لنا إشكالاتٍ عديدةً في نصِّ المَلْحَمَةِ حيثما ذُكِرَت الظلمةُ وغيابُ النّور. وهي الأشياءُ التي كرَّرها النّصُ مراتٍ عديدةً بلا كَلَلٍ للتأكيدِ على فضائيةِ الرّحلةِ. لاحِظْ هذِهِ الأسْطُرَ من العمودِ الخامِسِ: البدايةُ مكسورةٌ. 23. عندما صارَ على مسافةِ أربعِ ساعاتٍ مضاعفةٍ 24. صار الظّلامُ كثيفاً واختفى النّورُ 25. وَلَمْ يمكنْهُ تمييزُ شيءٍ أمامَهُ ولا خلفَهُ 26. وعندما كَانَ على مسافةِ خمسِ ساعاتٍ مضاعفة 27. صارَ الظّلامُ كثيفاً واختفى النّورُ 28. وَلَمْ يمكنْهُ تمييزُ أيِّ شيءٍ أمامَهُ ولا خلفَهُ 29. وعندما كَانَ على مسافةِ ستِّ ساعاتٍ مضاعفةٍ 30. صارَ الظلامُ كثيفاً 31. وعندما كَانَ على مسافةِ سبعِ ساعاتٍ مضاعفةٍ 32. صارَ الظّلامُ شديداً واختفى النّورُ 33. وَلَمْ يمكنْهُ تمييزُ شيءٍ أمامَهُ ولا خلفَهُ 35. وعندما سارَ مسافةَ ثماني ساعاتٍ مضاعفةٍ 36. أخذَ يصرخُ.. وصارَ الظّلامُ كثيفاً واختفى النّورُ 37. فلم يمكنْهُ تمييزُ أيِّ شيءٍ أمامَهُ أو خلفَهُ 38. وعندما صارَ على مسافةِ تسعِ ساعاتٍ مضاعفةٍ 39. شعرَ (بالرّيحِ)..وأخذ يهوي على وجهِهِ 40. وصارَ الظّلامُ كثيفاً واختفى النّورُ 41. وَلَمْ يمكنْهُ تمييزَ شيءٍ أمامَهُ ولا خلفَهُ 42. وعندما سارَ مسافةَ عشرِ ساعاتٍ مضاعفةٍ 43. ...... صارَ قريباً…… 44. ........ من السّاعة….... 45. وعندما سارَ مسافةَ إحدى عشرةَ ساعةٍ مضاعفةٍ خرجَ قرصٌ 46. وعندما سارَ مسافةَ أثنى عشر ساعةٍ مضاعفةٍ صارت (الأرضُ) منيرةً. 47. وعندما رأى غابةَ الصّخورِ بدأ… لا أعتقدُ أنّ هناك وصفاً أكثرَ دقّةٍ من هذا الوصف لرحلةٍ في الفضاء حسب ما نعرفُهُ من علومٍ حديثةٍ. فلاحظْ كيف يؤكّدُ النّصُ على تكاثفِ الظّلامِ كلّما ابتعدَ في الفضاء. ولاحظْ أيضاً الدّقّةَ المدهشةَ في السّطرِ (35 - 36)، إذ أخذَ يصرخُ في منطقةِ تعادلِ الجاذبيةِ، ولاحظ الدّقّةَ الأخرى حينَمَا اقتربَ من الكوكبِ الهدفِ بعد ذلِكَ وانقلب مركزَ التجاذبِ نحو الكوكبِ (فأخذ يهوي على وجهِهِ)، ولاحظْ رابعاً كيف شعرَ بقوّةِ الجذبِ تسحبُهُ كالرّيحِ أو شعرَ بريّاحِ الغلافِ الغازيِّ لذلك الكوكبِ. ولاحظْ خامساً أنّه (صارَ قريباً) بعد عشرِ ساعاتٍ من الانطلاقِ… ولكن النّصَّ مخرومٌ فلا نعلمُ بالضّبط من أيِّ كوكبٍ اقترب. ولاحظْ كيف رأى قرصَ الشّمسِ السّاعةَ الحاديةَ عشرةَ. ولاحظْ أيضاً كيف صارتْ أرضُ ذلِكَ الكوكبِ منيرةً، واقتربَ أكثرَ فرأى غابةَ الصّخورِ. فما الذي يراه المرءُ حينَمَا يحطُّ على كوكبٍ آخرٍ؟.. بالطّبع سوف يرى صخوراً غريبةً عمّا عَهِدَهُ على الأرض، ولها تشكيلاتٌ لَمْ يلاحظْها من قبلُ وهكذا كَانَتْ صفاتُ تِلْكَ الصّخورِ: العمود الخامس: أبصرَ أمامَهُ أشجاراً تحملُ أحجاراً كريمةً اقتربَ مِنْهَا… وجدَ الأشجارَ التي ثمارُهُا العقيقُ ووجد الأشجارَ التي تحملُ اللازوردَ فما أبهى مرآها رأى الشّوكَ والعوسجَ الذي يحملُ الأحجارَ الكريمةَ واللؤلؤَ البحريَّ… العمود السّادس: …بداية مكسورة… 25. ...غابة الأرز… 26. زينتها الصّخر الأبيض 27. اللاروشُ البحريُّ والرصاصُ الأحمرُ 28. الكبر والشّوك وصخر الإنكوكمي المعدني 30. وصخر الزّاج وحجر الدّم 31. …… 32. …حجر الأصماغ الزرنيخيّة 33. ….للبحر…… فهل تعتقدُ أنّ مثلَ هذِهِ الأوصافِ تنطبقُ على بقعةٍ من بقاع الأرض.. فضلاً عن أن تكون منطبقةً على جبال لبنان؟. ... القيصر $ | |
|
| |
{ القيصر }
عدد المساهمات : 311 النقاط : 517 الشُّهرة : 3 تاريخ التسجيل : 20/03/2011 العمر : 35 المكان : سوريا - حمص - مقيم في السعودية الجنس : المزاج : اعتباراً من الغد
| موضوع: رد: ملمحمة جلجامش البابلية السبت 25 يونيو 2011, 9:02 pm | |
| المقطع الحادي عشر قَدْ يقولُ قائلٌ: (إنّ هذا الوصّفَ هو للغابةِ في الرحلة الثّانية لا الأولى وهي التي افترض الشرّاح أنّها غابات الأرز في لبنان!). صحيحٌ.. ولكن الوحدةَ الموضوعيةَ للملحمةِ تستلزم إجراءَ المقارنةِ. فهناك تشابهٌ بَيْنَ الرّحلتين من حيث طبيعةِ الموضعِ المقصودِ لكونِهِ موضعاً فضائياً. ففي الرحلتين تمَّ اجتيازُ الجبالِ الشامخةِ التي سنَفُكُّ رموزَها في موضعِها من هذا البَحْث. وفي الرّحلتين وصل جلجامشُ إلى الغابةِ (غابة الأرز).. ولكنَّ انخرامَ النّصِّ في الرّحلة الأولى حالَ دونِ معرفةِ تفاصيلِها. إذن فيمكن أخذُهَا من الرّحلة الثّانية. ففي الأولى حيث (خمبابا) تمَّ إجراءُ حسابٍ دقيقٍ لأوزانِ الأسلحةِ لمواجهةِ ضعفِ الجاذبيةِ. وفي الثّانيةِ استُخدِمَت عباراتٌ خاصّةٌ كثيرةٌ لوصفِ السّفرِ في الفضاءِ واضحةً وضوحاً كافياً ويستحيلُ تأويلُها بنحوٍ آخرٍ. ومع ذلِكَ فإنّ تفاصيلَ الرّحلةِ الثانيةِ سنلاحظُها في موضعِها. والمقطوعُ بِهِ عندنا أنّ الغابةَ الصّخريةَ هي في قمرٍ من أقمارِ المشتري لارتباطِ وصفِ "خمبابا" باللفظ (دابي ـ نو) الذي يعني المشتري، وَذلِكَ لأنَّ جاذبيةَ الكواكبِ لا تستدعي هذا الفارقَ في الأوزانِ، وإنما يحدثُ ذلِكَ في أحدِ أقمارِ المشتري الأربعة عشرَ مثلاً. إنّ أوطأَ جاذبيةٍ في المنظومةِ الشّمسيّةِ هي في المريخِ وتبلغ حوالي 38% من جذبِ الأرضِ. ويقرب مِنْهَا جذبُ عطاردَ حيث يبلغ 37% من جاذبيةِ الأرضِ. وهذا الفارقُ يحتاجُ إلى مضاعفةِ الأوزانِ ثلاثَ مراتٍ فقط لا ثمانية عشر مرّة. وَقَدْ يقول قائلٌ: (إنّ زيادةَ الوزنِ افتعلَها الكاتبُ لكي يتناسبَ جسمُ جلجامش الضّخمُ مَعَ صديقِهِ أنكيدو المشابه له في الضّخامة). لكنّ هذا التأويلَ لا يُعدُّ مقبولاً من غيرِ حساباتٍ محدّدةٍ. إنّ طول جلجامش يبلغُ أحدَ عشر ذراعاً. وَهَذِهِ الأسطرُ وإن كَانَتْ مفقودةً في النّصِّ الأكديِّ وتتعذّرُ مقارنتُها لتكون التّرجمةُ دقيقةً، لكنّها مَعَ ذلِكَ لا تناسبُ زيادةَ الأوزانِ بأيّةِ حالٍ. فإذا كَانَ يعادلُ ثلاثةَ رجالٍ طولُ كلٍّ منهم ثلاثةُ أذرعٍ ونصف (175) سم وهو الطول دون المتوسّط، فإنّ زيادةَ وزنِ السّلاحِ يجبُ أن تكونَ ثلاثَ مرّاتٍ أو خمس مرّاتٍ، ولكنّها لن تكون ثمانيةَ عشر مرّةٍ. بيد أنّ النّصَّ لا يسمحُ حتّى بمجرّدِ التفكيرِ بهذا الاحتمالِ. لماذا؟ لأنَّ الصنَّاعَ لَمْ يسبكوا السّيوفَ والفؤوسَ إلاَّ بعد إن (تشاوروا) حسبَ تعبيرِ النّصِ. بماذا يتشاورون؟ واضحٌ أنّ مثلَ هذِهِ الأسلحةِ غيرُ معهودةٍ لهم من قبلُ، وإنّما جاءتِ الأوامرُ طالبةً صُنْعَ أسلحةٍ بأوزانٍ مضاعفةٍ إلى مقدارِ ثمانية عشر مرّة!، وبالتالي فإنّهم يحتاجون إلى صُنْعِ قوالبٍ ونماذجٍ بديلةٍ لنماذِجِهِم. وهذا بمفردِهِ يدلُّ على أنّ جلجامشَ لَمْ يكنْ يستعملُ مثلَ هذِهِ الأسلحةِ من قبل، وإنّما لهذه الرّحلةِ فقط. وثمّةُ إشارةٌ هامّةٌ أخرى في النصِّ… إذ لو كَانَتْ تِلْكَ الأسّلحةُ لجلجامشَ وصديقَه فقط لاتصافِهِما بالضّخامة الجسّدية، لقال النّص: (صنعوا لهما سيفين ـ بالمثنى ـ زنة كلّ منهما كذا…) ولقال أيضاً: (فأسين زنة كلّ منهما كذا…)..الخ على التّثنية، لكنَّهُ استخدمَ صيغةَ الجمعِ، إذ سَلَّحَ جلجامشُ جميعَ جُنْدِهِِ المنتخَبين للسّفر مَعَهُ الذين ذَكَرَهم المُلْحَقُ المسمَّى (ملحمة أرض الحياة) السومريُّ الأقْدَمُ عهداً من المَلْحَمَةِ البابليَّةِ والبالِغُ عدَدُهُم (خمسين رجلاً) كَمَا في ملحمَةِ جلجامش./طه باقر-197. ومن جهةٍ أخرى وَرَدَ في النّصِّ الأكدي ـ ترجمة الأحمد ـ ابتداءُ صُنْعِ الأسلحةِ بالعباراتِ الآتيةِ لجلجامشَ مخاطباً أنكيدو: تعالَ صديقي سأُعطي إلى صُنَّاعِ الأسلحةِ كيما يصنعوا الأسلحةَ أمامَنَا تعالَ إلى صُنّاعِ أسلحةِ الدّمارِ فماذا يعطي للصنّاع؟ من المؤكّد أنّه يعطيهم المواصفاتِ الجديدةَ لهذه الأسلحةِ. رَمْزيَّةُ عَشْتَارَ يَعسِرُ علينا ـ مَعَ الأسفِ ـ تصديقَ الباحثينَ بشأنِ ألوهيةِ عشتارَ في وادي الرّافدينِ بعدَ الخلْطِ الذي نلاحظُهُ في ترجمةِ لفظِ (أيلو) الذي يعني أشياءَ كثيرةً عِنْدَ الشُرّاح مِنْهَا: (إله ـ رب ـ ملك ـ مقدّس ـ محارب ـ عنيف..الخ). ولا يكفي قولُهُم بوجودِ إشارةِ الألوهيةِ لهذا الإثباتِ، إذ يتطرّقُ الشّكُ إلى الإشارةِ نفسِها فيما إذا كَانَتْ تعني أنّ الاسمَ هو عَلَمٌ معروفٌ، فيكون عملُهَا عَمَلَ أداةِ التعريف العربية (أل) وخاصّةً مَعَ التّشابهِ الّلفظيِّ بينهما: (أيلو ـ أل). وألاَّ كيفَ يمكنُ تفسيرُ مجيءِ مثلِ هذا المقطعِ مَعَ الأعلامِ فقط من ملوكٍ إلى آلهةٍ إلى بغايا ومومساتٍ، بشكلٍ يجعلُ الشُرّاح في حيرةٍ منه وبحيثُ أنّهم يحاولون التخلُّصَ من الالتباس بوصف البغايا بالقداسةِ؟. على أنّ قصورَ هذِهِ الترجماتِ سيظهرُ جلياً بعدَ الكشفِ عن رمزيةِ تِلْكَ الأعلامِ كَمَا هي في ذهنِ العراقيِّ القديمِ في المواضيعِ الآتيةِ التي نحاولَ فيها التمهيدَ لكشفِ شخصيّةِ جلجامشَ، ومن ثَمَّ قراءةَ أكثرِ أعمدةِ المَلْحَمَة تعقيداً قراءةً علميةً لغويةً جديدةً. فلنلاحظَ موقعَ عشتارَ في المَلْحَمَة: لَقَدْ حدثتْ مشادةٌ عنيفةٌ بَيْنَ جلجامشَ ومن يسمّيها الشُرّاحُ (الرّبةَ عشتارَ) انتهت أخيراً بتوجيهِ جلجامشَ لها سيلاً من الإهاناتِ مما اضطرَّها أنْ تقدِّمَ شكوى ضدّه إلى (آنو) إلهِ السّماءِ مقترحةً عليه خلقَ ثورٍ سماويٍّ يواجِهُ جلجامشَ. الواقعُ أنّ المنازعةَ حصلت بسببِ رفضِ جلجامشَ قبولِها كحبيبةٍ أو (زوجةٍ) على حدِّ بعضِ الترجماتِ بعد إن حاولَتْ إغراءَه بشتَّى الوسائلِ. وَقَدْ حدثَ ذلِكَ تحديداً بعد قتلِهِ خمبابا. والواقع أيضاً أنَّ جلجامشَ لَمْ يرجعْ إلى أوروكَ فوراً بَعْدَ قَتْلِ خمبابا. وإنَّ المغازلةَ والكلماتِ المعسولةَ التي أبدَتْها عشتارُ له إنَّما أبدَتْها وهو لَمْ يزلْ في موضِعِه من الغابة، وتحديداً بعد إنْ (أرسلَ جدائلَ شَعْرِهِ وارتدى حُلَّةً مزركشةً ووضَعَ التّاجَ على رأسِهِ). وهذا التّحديدُ هامٌّ جدّاً، إذ يكشفُ لنا فوراً مَنْ هي عشتارُ مِن خلالِ أقوالِها ـ التي هي أقوالُ الحياةِ لا غيرَ ـ كَمَا سنلاحظُهُ قريباً. بَيْدَ أنَّنا نحاولُ تحديدَ الرّمزيةِ في عشتارَ من خلالِ المَلْحَمَة فقط. أمّا أن تكونَ قَدْ استُخْدِمِتْ كإلهٍ معبودٍ فإنّه احتمالٌ يحتاجُ إلى دراسةٍ خاصّةٍ. ولكن هذا احتمالٌ ما أبعدَهُ بعد هذا التّحليلِ. ذلِكَ لأننا يمكنُ أنْ نقولَ أنّها ربٌّ وأنّها معبودٌ في الرّمزِ الأدبيِّ، فهي معبودٌ مزّيفٌ. وكانت غايةُ الأدبِ في وادي الرّافدينِ نقدَهُ لا تقديسَهُ. وهو أمرٌ يستدعي إعادةَ النّظرِ بجميعِ مفرداتِ النصوصِ المتعلّقةِ بالموضوعِ. وأعني بهذا الأدبِ أدبَ الخاصّةِ دونَ غيرِهِم كَمَا في المَلْحَمَة. ... القيصر $ | |
|
| |
{ القيصر }
عدد المساهمات : 311 النقاط : 517 الشُّهرة : 3 تاريخ التسجيل : 20/03/2011 العمر : 35 المكان : سوريا - حمص - مقيم في السعودية الجنس : المزاج : اعتباراً من الغد
| موضوع: رد: ملمحمة جلجامش البابلية السبت 25 يونيو 2011, 9:04 pm | |
| المقطع الحادي عشر قَدْ يقولُ قائلٌ: (إنّ هذا الوصّفَ هو للغابةِ في الرحلة الثّانية لا الأولى وهي التي افترض الشرّاح أنّها غابات الأرز في لبنان!). صحيحٌ.. ولكن الوحدةَ الموضوعيةَ للملحمةِ تستلزم إجراءَ المقارنةِ. فهناك تشابهٌ بَيْنَ الرّحلتين من حيث طبيعةِ الموضعِ المقصودِ لكونِهِ موضعاً فضائياً. ففي الرحلتين تمَّ اجتيازُ الجبالِ الشامخةِ التي سنَفُكُّ رموزَها في موضعِها من هذا البَحْث. وفي الرّحلتين وصل جلجامشُ إلى الغابةِ (غابة الأرز).. ولكنَّ انخرامَ النّصِّ في الرّحلة الأولى حالَ دونِ معرفةِ تفاصيلِها. إذن فيمكن أخذُهَا من الرّحلة الثّانية. ففي الأولى حيث (خمبابا) تمَّ إجراءُ حسابٍ دقيقٍ لأوزانِ الأسلحةِ لمواجهةِ ضعفِ الجاذبيةِ. وفي الثّانيةِ استُخدِمَت عباراتٌ خاصّةٌ كثيرةٌ لوصفِ السّفرِ في الفضاءِ واضحةً وضوحاً كافياً ويستحيلُ تأويلُها بنحوٍ آخرٍ. ومع ذلِكَ فإنّ تفاصيلَ الرّحلةِ الثانيةِ سنلاحظُها في موضعِها. والمقطوعُ بِهِ عندنا أنّ الغابةَ الصّخريةَ هي في قمرٍ من أقمارِ المشتري لارتباطِ وصفِ "خمبابا" باللفظ (دابي ـ نو) الذي يعني المشتري، وَذلِكَ لأنَّ جاذبيةَ الكواكبِ لا تستدعي هذا الفارقَ في الأوزانِ، وإنما يحدثُ ذلِكَ في أحدِ أقمارِ المشتري الأربعة عشرَ مثلاً. إنّ أوطأَ جاذبيةٍ في المنظومةِ الشّمسيّةِ هي في المريخِ وتبلغ حوالي 38% من جذبِ الأرضِ. ويقرب مِنْهَا جذبُ عطاردَ حيث يبلغ 37% من جاذبيةِ الأرضِ. وهذا الفارقُ يحتاجُ إلى مضاعفةِ الأوزانِ ثلاثَ مراتٍ فقط لا ثمانية عشر مرّة. وَقَدْ يقول قائلٌ: (إنّ زيادةَ الوزنِ افتعلَها الكاتبُ لكي يتناسبَ جسمُ جلجامش الضّخمُ مَعَ صديقِهِ أنكيدو المشابه له في الضّخامة). لكنّ هذا التأويلَ لا يُعدُّ مقبولاً من غيرِ حساباتٍ محدّدةٍ. إنّ طول جلجامش يبلغُ أحدَ عشر ذراعاً. وَهَذِهِ الأسطرُ وإن كَانَتْ مفقودةً في النّصِّ الأكديِّ وتتعذّرُ مقارنتُها لتكون التّرجمةُ دقيقةً، لكنّها مَعَ ذلِكَ لا تناسبُ زيادةَ الأوزانِ بأيّةِ حالٍ. فإذا كَانَ يعادلُ ثلاثةَ رجالٍ طولُ كلٍّ منهم ثلاثةُ أذرعٍ ونصف (175) سم وهو الطول دون المتوسّط، فإنّ زيادةَ وزنِ السّلاحِ يجبُ أن تكونَ ثلاثَ مرّاتٍ أو خمس مرّاتٍ، ولكنّها لن تكون ثمانيةَ عشر مرّةٍ. بيد أنّ النّصَّ لا يسمحُ حتّى بمجرّدِ التفكيرِ بهذا الاحتمالِ. لماذا؟ لأنَّ الصنَّاعَ لَمْ يسبكوا السّيوفَ والفؤوسَ إلاَّ بعد إن (تشاوروا) حسبَ تعبيرِ النّصِ. بماذا يتشاورون؟ واضحٌ أنّ مثلَ هذِهِ الأسلحةِ غيرُ معهودةٍ لهم من قبلُ، وإنّما جاءتِ الأوامرُ طالبةً صُنْعَ أسلحةٍ بأوزانٍ مضاعفةٍ إلى مقدارِ ثمانية عشر مرّة!، وبالتالي فإنّهم يحتاجون إلى صُنْعِ قوالبٍ ونماذجٍ بديلةٍ لنماذِجِهِم. وهذا بمفردِهِ يدلُّ على أنّ جلجامشَ لَمْ يكنْ يستعملُ مثلَ هذِهِ الأسلحةِ من قبل، وإنّما لهذه الرّحلةِ فقط. وثمّةُ إشارةٌ هامّةٌ أخرى في النصِّ… إذ لو كَانَتْ تِلْكَ الأسّلحةُ لجلجامشَ وصديقَه فقط لاتصافِهِما بالضّخامة الجسّدية، لقال النّص: (صنعوا لهما سيفين ـ بالمثنى ـ زنة كلّ منهما كذا…) ولقال أيضاً: (فأسين زنة كلّ منهما كذا…)..الخ على التّثنية، لكنَّهُ استخدمَ صيغةَ الجمعِ، إذ سَلَّحَ جلجامشُ جميعَ جُنْدِهِِ المنتخَبين للسّفر مَعَهُ الذين ذَكَرَهم المُلْحَقُ المسمَّى (ملحمة أرض الحياة) السومريُّ الأقْدَمُ عهداً من المَلْحَمَةِ البابليَّةِ والبالِغُ عدَدُهُم (خمسين رجلاً) كَمَا في ملحمَةِ جلجامش./طه باقر-197. ومن جهةٍ أخرى وَرَدَ في النّصِّ الأكدي ـ ترجمة الأحمد ـ ابتداءُ صُنْعِ الأسلحةِ بالعباراتِ الآتيةِ لجلجامشَ مخاطباً أنكيدو: تعالَ صديقي سأُعطي إلى صُنَّاعِ الأسلحةِ كيما يصنعوا الأسلحةَ أمامَنَا تعالَ إلى صُنّاعِ أسلحةِ الدّمارِ فماذا يعطي للصنّاع؟ من المؤكّد أنّه يعطيهم المواصفاتِ الجديدةَ لهذه الأسلحةِ. رَمْزيَّةُ عَشْتَارَ يَعسِرُ علينا ـ مَعَ الأسفِ ـ تصديقَ الباحثينَ بشأنِ ألوهيةِ عشتارَ في وادي الرّافدينِ بعدَ الخلْطِ الذي نلاحظُهُ في ترجمةِ لفظِ (أيلو) الذي يعني أشياءَ كثيرةً عِنْدَ الشُرّاح مِنْهَا: (إله ـ رب ـ ملك ـ مقدّس ـ محارب ـ عنيف..الخ). ولا يكفي قولُهُم بوجودِ إشارةِ الألوهيةِ لهذا الإثباتِ، إذ يتطرّقُ الشّكُ إلى الإشارةِ نفسِها فيما إذا كَانَتْ تعني أنّ الاسمَ هو عَلَمٌ معروفٌ، فيكون عملُهَا عَمَلَ أداةِ التعريف العربية (أل) وخاصّةً مَعَ التّشابهِ الّلفظيِّ بينهما: (أيلو ـ أل). وألاَّ كيفَ يمكنُ تفسيرُ مجيءِ مثلِ هذا المقطعِ مَعَ الأعلامِ فقط من ملوكٍ إلى آلهةٍ إلى بغايا ومومساتٍ، بشكلٍ يجعلُ الشُرّاح في حيرةٍ منه وبحيثُ أنّهم يحاولون التخلُّصَ من الالتباس بوصف البغايا بالقداسةِ؟. على أنّ قصورَ هذِهِ الترجماتِ سيظهرُ جلياً بعدَ الكشفِ عن رمزيةِ تِلْكَ الأعلامِ كَمَا هي في ذهنِ العراقيِّ القديمِ في المواضيعِ الآتيةِ التي نحاولَ فيها التمهيدَ لكشفِ شخصيّةِ جلجامشَ، ومن ثَمَّ قراءةَ أكثرِ أعمدةِ المَلْحَمَة تعقيداً قراءةً علميةً لغويةً جديدةً. فلنلاحظَ موقعَ عشتارَ في المَلْحَمَة: لَقَدْ حدثتْ مشادةٌ عنيفةٌ بَيْنَ جلجامشَ ومن يسمّيها الشُرّاحُ (الرّبةَ عشتارَ) انتهت أخيراً بتوجيهِ جلجامشَ لها سيلاً من الإهاناتِ مما اضطرَّها أنْ تقدِّمَ شكوى ضدّه إلى (آنو) إلهِ السّماءِ مقترحةً عليه خلقَ ثورٍ سماويٍّ يواجِهُ جلجامشَ. الواقعُ أنّ المنازعةَ حصلت بسببِ رفضِ جلجامشَ قبولِها كحبيبةٍ أو (زوجةٍ) على حدِّ بعضِ الترجماتِ بعد إن حاولَتْ إغراءَه بشتَّى الوسائلِ. وَقَدْ حدثَ ذلِكَ تحديداً بعد قتلِهِ خمبابا. والواقع أيضاً أنَّ جلجامشَ لَمْ يرجعْ إلى أوروكَ فوراً بَعْدَ قَتْلِ خمبابا. وإنَّ المغازلةَ والكلماتِ المعسولةَ التي أبدَتْها عشتارُ له إنَّما أبدَتْها وهو لَمْ يزلْ في موضِعِه من الغابة، وتحديداً بعد إنْ (أرسلَ جدائلَ شَعْرِهِ وارتدى حُلَّةً مزركشةً ووضَعَ التّاجَ على رأسِهِ). وهذا التّحديدُ هامٌّ جدّاً، إذ يكشفُ لنا فوراً مَنْ هي عشتارُ مِن خلالِ أقوالِها ـ التي هي أقوالُ الحياةِ لا غيرَ ـ كَمَا سنلاحظُهُ قريباً. بَيْدَ أنَّنا نحاولُ تحديدَ الرّمزيةِ في عشتارَ من خلالِ المَلْحَمَة فقط. أمّا أن تكونَ قَدْ استُخْدِمِتْ كإلهٍ معبودٍ فإنّه احتمالٌ يحتاجُ إلى دراسةٍ خاصّةٍ. ولكن هذا احتمالٌ ما أبعدَهُ بعد هذا التّحليلِ. ذلِكَ لأننا يمكنُ أنْ نقولَ أنّها ربٌّ وأنّها معبودٌ في الرّمزِ الأدبيِّ، فهي معبودٌ مزّيفٌ. وكانت غايةُ الأدبِ في وادي الرّافدينِ نقدَهُ لا تقديسَهُ. وهو أمرٌ يستدعي إعادةَ النّظرِ بجميعِ مفرداتِ النصوصِ المتعلّقةِ بالموضوعِ. وأعني بهذا الأدبِ أدبَ الخاصّةِ دونَ غيرِهِم كَمَا في المَلْحَمَة. ... القيصر $ | |
|
| |
{ القيصر }
عدد المساهمات : 311 النقاط : 517 الشُّهرة : 3 تاريخ التسجيل : 20/03/2011 العمر : 35 المكان : سوريا - حمص - مقيم في السعودية الجنس : المزاج : اعتباراً من الغد
| موضوع: رد: ملمحمة جلجامش البابلية السبت 25 يونيو 2011, 9:06 pm | |
| المقطع الثاني عشر فلنلاحِظَ أوّلاً مَنْ هي عشتارُ التي تتكلَّمُ عِنْدَ حدوثِ الطّوفانِ؟ ولماذا تبكي على الهَلْكى وفي عينِ الوقتِ تعترفُ أنّها هي التي أهلَكَتْهُم؟: وصَرَخَتْ عشتارُ كَمَا تصرخُ المرأةُ في الولادةِ انتَحَبتْ سيّدةُ الأربابِ.. ناحَتْ بصوتِها الشّجيِّ نادبةً… وأحسرتاه لَقَدْ عادتْ الأيّامُ الأولى إلى طينٍ لأنّي نطَقتُ بالشرِّ في مجمعِ الأربابِ ماذا دهاني إذ نطقتُ بالشرِّ لَقَدْ سلّطتُ الدّمارَ على خَلْقِي (أَناسي) وأنا التي وَلَدْتُ أناسيَ هؤلاءِ وملئوا اليمَّ كبيضِ السّمكِ من المؤكّدِ أنّ هذِهِ المتكلّمةَ هي الحياةُ، وتحديداً الحياةُ الدّنيا أي الواطئة. فالحياةُ تصرخُ حينَمَا يكونُ هناك إفناءٌ للخلقِ، ذلِكَ لأنّها تعبيرٌ عن وجودِهِم (كَمَا تصرخ المرأة في الولادة)، لأنّها بأزاءِ عسرِ ولادةٍ جديدةٍ بعد الهلاكِ. وبالطّبع تكون ولادةً عسيرةً جداً بعد إن (ملئوا اليمَّ كبيضِ السّمكِ)!. ومن المعلومِ أنَّ سببَ دمارِ الحياةِ فلسفياً عِنْدَ كاتبِ المَلْحَمَة هو الحياةُ نفسُهَا، من حيثُ أنّها دنيا وواطئةٌ لا تسمحُ بالبقاءِ والاستمرارِ لأيِّ كائنٍ. وَلِذَلِكَ اعترفَتْ بأنّها هي التي أهلكَتْهُم. ومن الواضحِ أيضاً أنَّ الخلقَ الذين هلكوا (من إنسانٍ ونباتٍ وحيوانٍ) هم من ولادةِ الحياةِ لهم، فهم خَلْقُهَا وأُناسُهَا. ولمّا كَانَتْ الحياةُ قَدْ رافقَتْ نشوءَ الكائناتِ من طينٍ من أوّلِ عهودِ التّكوينِ فَقَدْ تذكّرتْ ذلِكَ نادبةً: (وأحسرتاه لَقَدْ عادت الأيّام الأولى إلى طين)!. إنّ الكشفَ عن أهميةِ عشتارَ متمثّلةً بالحياةِ الدّنيا المنقطعةِ سوف يفسِّرُ لنا جميعَ سلوكياتِهَا في جميعِ النّصوصِ بلا استثناءٍ. وإذن فإنّ نداءَها لجلجامشَ في تِلْكَ اللحظةِ هو نداءُ الحياةِ. فلقد اختارت اللحظةَ الحاسمةَ للمغازلةِ ـ لحظةَ انتصارِه ِعلى قوّةٍ فضائيةٍ لا طاقةَ لأحدٍ بها). بَيْدَ أنَّ جلجامشَ رجلٌ حكيمٌ لا مجرَّدُ مَلِكٍ متهوّرٍ. فهو يدركُ أنَّ هذِهِ الحكمةَ إنّما حصلَ عليها لسببٍ واحدٍ فقط هو ولعُهُ بالحياةِ الحقيقيّةِ الدّائمةِ. وأمّا الحياةُ القصيرةُ المزيّفةُ فهي لَيْسَتْ سوى عدوٍّ لدودٍ. إنّ في مثلِ هذا التّعارضِ بَيْنَ حُبِّ الحياةِ وكرهِ الحياةِ الدّنيا هو تعارضٌ ظاهريٌّ، وهو صفةٌ من صفاتِ الحكماءِ والعارفين. لَمْ يكن النداءُ إذن سوى نداءِ حُبِّ الذّاتِ والغرائزِ المرتبطةِ بالحياةِ الدّنيا.. فإنّها تنادي المرءَ في ذروةِ النّصرِ والقوّةِ عارضةً عليه استغلالَ تِلْكَ القوّةِ والنّصرِ للتشبّثِ بالحياةِ والتّمتعِ بها. وهكذا عرضت الحياةُ (عشتارُ) نفسَهَا على جلجامشَ لتكونَ حبيبتَهُ الوحيدةَ في اللحظةِ المناسبةِ (لحظةِ انتصارِهِ على خمبابا): رَفَعَتْ عشتارُ الجليلةُ عينَيْها رَمَقَتْ جمالَ جلجامشَ تعالَ يا جلجامشُ وكُنْ حبيبي حبيبي الذي اخترتُ امنحني ثمرتَكَ أتمتّعُ بِهَا سأعِدُّ لك مركبةً من حجرِ اللازوردَ والذّهبِ عجلاتُها من الذّهبِ وقرونُها من المشو وستربطُ لجرّها شياطينَ الصّاعقةِ بدلاً من البغالِ وفي بيتِنا ستَجِدُ شذى الأرزِ يعبقُ فيه إذا ما دخلتَ بيتَنا تُقَبِّلُ قدمَيك الدّكةَ ينحني لكَ الملوكُ والحكّامُ والأمراءُ خُضوعاً يقدِّمونَ لكَ الإتاوةَ… من نتاجِ الجّبلِ والسّهلِ فلاحِظْ أخي القارئ وتمعّن في عباراتِها هل تجدُ متحدِّثاً غيرَ الحياةِ الدّنيا وهي تعرضُ مغرياتِهَا الماديةَ على العارفينَ والحكماءِ مثل جلجامشَ؟ وإنّها لتفي بما تَعِدُ فعلاً.. فهلْ هناك من يستحقُّ أن يركبَ عربةً من الذّهبِ ويخضعُ له الملوكُ والحكّامُ في الأرضِ سوى جلجامشَ الذي ينتصرُ على القوّةِ الفضائيةِ المهاجمةِ للأرضِ في عصورِ الظلماتِ والتّخلُّفِ؟. ولكنَّ جلجامشَ رجلٌ حكيمٌ وعارفٌ بالأسرارِ ومنها الحياةِ، وَلِذَلِكَ فلا يمكنُهَا أن تخدعَهُ. فالحكماءُ يبحثونَ عن الحياةِ الحقيقيةِ الدّائمةِ التي لا موتَ فيها. أمّا الحياةُ التي تنتهي بالموتِ فهي خدعةٌ. ومن هنا بدأ جلجامشُ بسَرْدِ مثالبِ الحياةِ الدّنيا ونقائصِهَا.. فهي من حيثُ كونِها باباً للحياةِ الدّائمة فلا إشكالٌ في كونِها تستحقُّ أن تُعاشَ، ولكن من حيثُ كونِها هي الحياة (الحبيبة أو الزّوجة)، فهي خدعةٌ، ذلِكَ لأنّها خدعَتْ كلَّ أولئكَ الذينَ ارتبطوا بها بهذا الرّباطِ الوثيقِ. فَقَدْ انكشفَ فيما بَعْدُ أنّها مَكَرَتْ بهم وأهانَتْهم. فهي ذاتُ بُعْدٍ واحدٍ، ولن تكونَ بأيّةِ حالٍ هي الغايةَ والمنتهى لِمَا تطمعُ إليه نَفْس جلجامشَ الذي أجابَهَا قائلاً: أنتِ؟! أيُّ خيرٍ سأنالُهُ لو اتخذتُكِ حبيبةً؟! أنتِ؟! ما أنتِ إلاَّ موقدٌ تُخمدُ نارُهُ في البردِ أنتِ كالبابِ الخلفيِّ الذي لا يَصدُّ ريحاً ولا عاصفةً أنتِ قَصرٌ تتحطَّمُ في داخلِهِ الأبطالُ أنتِ فيلٌ يمزِّقُ رَحلَهُ أنتِ قربةٌ مثقوبةٌ تبلِّلُ حاملَها أنتِ حجرُ مرمرٍ ينهارُ جدارُهُ أنتِ حجرُ يَشْبٍ يَستَقدِمُ عدوَّهُ أنتِ فِردةُ حذاءٍ تؤذي من انتَعَلَها تتضمّنُ إجابةُ جلجامشَ رؤياهُ للحياةِ في كلِّ سطرٍ من السطورِ أعلاه، فعلاوةً على كونِها كالموقدِ الذي تُخمدُ نارُهُ في البردِ عِنْدَ الحاجةِ، لأنَّ المرءَ ما إن يبلغَ العقلَ التّامَّ والتّجربةَ الكافيةَ ويصلُ إلى الدرجةِ التي يمكنُهُ من خلالِها الانتفاعُ بمعارفِهِ، فإذا بقواه الجسدّيةِ تَخمِدُ ويدبُّ الضّعفُ في جسدِهِ استقبالاً للموتِ الذي لا بدَّ منه. وما إن يفتحَ عينَهَ على الأشياءِ، فإذا بِهِ يخرجُ من (البابِ الخلفيِّ). البناءُ فيها يشبَهُ البناءَ بحجرِ المرمرِ وحدَهُ، إذ ينهارُ الجدارُ في آخرِ المطافِ لانزلاقِ القطعِ بعضِها على بعضٍ.. إنّها حجرُ اليَشْبِ الذي يُغري المرءَ بحملِهِ لكنه يُسمُّهُ فيموتُ! علاوةً على كلِّ ذلِكَ، فهي مثلُ فردةِ الحذاءِ التي تُؤذي لابسَهَا.. وهي صورةٌ بلاغيةٌ عاليةٌ جداً، لأنّ الحياةَ أحاديةٌ ذاتُ اتجاهٍ واحدٍ دوماً وينعدمُ فيها التوازنُ المطلوبُ للحركةِ بَيْنَ الإنسانِ المُغرِمِ بالبقاءِ وَبَيْنَ الحياةِ التي تسلبُهُ هذا البقاءَ، فهي تأخذُ من حيثُ تَهِبُ وتسلبُ من حيثُ تُعطي.. إنّها حياةٌ عرجاءٌ، المتمسّكُ بها مثلُ لابسِ فردةِ حذاءٍ واحدةٍ يُمكنُكَ أن تسمِّيهِ لابساً لأجودِ أنواعِ الأحذيةِ، ولكنْ من ناحيةِ الرِّجلِ الأخرى يُمكنكَ أن تسمِّيهِ حافياً!... فالماشي هكذا غيرُ متوازنٍ وتؤلمُهُ قدمُهُ. حتّى الملوكُ فيها هُم بِرِجْلٍ واحدةٍ، إذ يموتونَ في النّهايةِ.. وإذن فَهُمْ لا يملكونَ حتّى أنفسَهُم فضلاً عن أن يملكوا شيئاً من الأشياءِ. وعلى ذلِكَ فإنَّ هذِهِ الإجابةَ من جلجامشَ منسجمةٌ كلُّ الانسجامِ مَعَ موضوعِ المَلْحَمَة الذي هو البَحْث عن الخلودِ ... القيصر $ | |
|
| |
{ القيصر }
عدد المساهمات : 311 النقاط : 517 الشُّهرة : 3 تاريخ التسجيل : 20/03/2011 العمر : 35 المكان : سوريا - حمص - مقيم في السعودية الجنس : المزاج : اعتباراً من الغد
| موضوع: رد: ملمحمة جلجامش البابلية السبت 25 يونيو 2011, 9:07 pm | |
| المقطع الثالث عشر وَلَيْسَتْ هي كَمَا حَسَبَ الشُرّاح مجرّدَ إهاناتٍ يَرِدُّ بها جلجامشُ على سيدةِ الأربابِ (عشتارَ) بعد مغازلتِهَا له وفقَ رؤياً أسطوريةٍ لا معنى لها. وعدا ذلِكَ فَقَدْ أعطى جلجامشُ صورةً مباينةً حينَمَا جعلَ الذين عَشَقَتْهُمْ عشتارُ خاسرينَ أيضاً مثلَ الذين عشقوها!. والمعادلةُ هنا واضحةٌ فإنَّ الذي يعشقُ الحياةَ الواطئةَ سيكون واطئاً بالتأكيدِ، ولن تقعَ هي في غرامِهِ بعد ذلِكَ. وأمّا الذي يَعرِضُ عنها فإنّها تلاحقُهُ بمغرياتِهَا، وحينما يَصِرُّ على هجرانِهَا فإنَّها تحاولُ الانتقامَ منه بأيَّةِ صورةٍ. وَقَدْ ذُكِرَتْ تِلْكَ المعادلةُ في الفكرِ الدّينيِّ عموماً من مثلِ قولِ أحدِ الأولياءِ: (مَنْ تَرَكَ الدُّنْيَا لَمْ تَتْرِكَهُ) أو (مَنْ هَجَرَ الدُّنْيَا أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ). وقبلَ التوّجِهِ إلى ما رَدَّ بِهِ جلجامشُ بعدَ ذلِكَ على عشتارَ نتوقّفُ قليلاً لشرحِ هذِهِ الحالةِ المتناقضةِ في العلاقةِ مَعَ الحياةِ في ذهنِ العراقيِّ القديمِ. إذ يبدو لنا أنَّ الموضوعَ الدّاخليَّ أو الباطنيَّ للملحمةِ هو (تناقضاتُ الوجودِ)، وَلِذَلِكَ فهي من هذِهِ الجهةِ أقدمُ نصٍّ تاريخيٍّ يتحدّثُ عن الجدلِ أو الديالكتيكِ العامِّ في الوجودِ سابقةً بذلكَ على كلِّ تفكيرٍ فلسفيٍّ آخرٍ. ولكنَّ هذِهِ الجدليّةَ تتميّزُ عن الجدّلِ الحديثِ في الفلسفةِ في كونِهِا جدليّةً مركّبةً، وَلِذَلِكَ فهي رؤيا تطابقُ الحلَّ الفلسفيَّ الجديدَ الذي قدّمناهُ وفقَ الفهمِ اللّغويِّ القصديِّ، والذي خلاصتُهُ أنّ التناقضَ في الوجودِ جوهريٌّ وداخليٌّ ولا يتعارضُ مَعَ مبدأ عدمِ التناقضِ الذي يقومُ عليهِ العلمُ الحديثُ والمنطقُ، بَلْ يعزِّزُهُ ويقوّيهِ، وهو الأمرُ الذي أغفلتهُ الفلسفةُ الحديثةُ فأوقعتْ نفسَها في مقولاتٍ ألغتْ بها تنظيرَها قبلَ إلغاءِهَا لأيِّ تنظيرٍ آخرٍ. إنّ التناقضَ المذكورَ هو من صميمِ العلاقةِ الفلسفيةِ بَيْنَ المخلوقِ والخالقِ في فهمِ العراقيِّ القديمِ الذي يبدو من المَلْحَمَة أنَّهُ سَبقَ الجميعَ في ذلِكَ. فالخالقُ الذي جعلَ هذِهِ الحياةَ واطئةً عن سابقِ عمدٍ وتخطيطٍ غايتُهُ فَرْزُ الذين يحبّون الحياةَ من الذين يمقتونَهَا. وبخلافِ المعادلةِ السّائدةِ في الأديانِ التي تؤكّدُ على ضرورةِ العزوفِ عن الحياةِ، فإنَّ الارتباطَ الفعليَّ بالخالقِ إنّما يتمُّ من خلالِ التشّبّثِ بالحياةِ والهيامِ بها باعتبارِهَا هبةَ الخالقِ التي لا تتكرَّرُ.. وهي بمثابةِ كلمةِ (شكرٍ) يقولُهَا المخلوقُ للخالقِ من أعماقِ قلبِهِ. وَلِذَلِكَ فإنَّ المحبَّ للحياةِ مُحِبٌّ للهِ والكارهُ لها كارهٌ للهِ ولعطاياهُ. ومِنْ هنا ندركُ أنَّ الفرزَ الحقيقيَّ بَيْنَ أحباب ِ اللهِ وأعداءِهِ يتمُّ من خلالِ نموذجٍ واطئٍ للحياةِ. فالذينَ عشقوا هذِهِ العطيّةَ يرفضونَ الاقتناعَ بهذا النموذجِ، والذينَ كرهوا عطيّةَ اللهِ قبلوا هذا النموذجَ. قَدْ تكونُ المعادلةُ مقلوبةً في أذهانِ البعضِ.. لأنَّهُم قالوا: (إنّ "المؤمنَ" عازفٌ عن الحياة). لكنّها عبارةٌ غيرُ دقيقةٍ، إذ المؤمنُ الحقيقيُّ عازفٌ عن الحياةِ الدّنيا (النّموذجُ الواطئُ) لولعِهِ الشّديدِ بالحياةِ الحقيقيةِ بمعناهَا التّامِّ. ومن هنا تظهرُ المعادلةُ الدّينيةُ.. فالذينَ ارتبطوا بالخالقِ ورفضوا الانصياعَ للموجوداتِ مَنَحَهُمْ المعرفةَ التي تمكِّنُهُم من التّسامي على الموجوداتِ. وأمّا الذينَ كرهوا عطيّةَ اللهِ فإنّهُم أصبحوا عبيداً للأشياءِ.. الأشياءِ التي ولدَتْهَا الحياةُ... وهكذا تعملُ الحياةُ بطريقتينِ متناقضتينِ.. فَقَدْ اختبرتِ الخلقَ بنموذجٍ مزيّفٍ ومشوّهٍ يحملُ صورتَهَا فقط لكي تفرزَ من خلالِهِ المزيفينَ عن المحبِّينَ الحقيقيينَ. فالذي يكرهُ هذِهِ الصورةَ المشوّهةَ لها هو المُحِبُّ، والذي أحبَّ هذِهِ الصورةَ هو الكارهُ. ومن الطبيعي أن يكونَ (الحُكّامُ) أكثرَ الخلقِ هياماً بهذه الصّورةِ المشوّهةِ، لذلك فإنّهم لا يتسامونَ عليها فَهُمْ أعداءٌ للحياةِ الحقيقيةِ ولا يجلبونَ لرعيّتِهِم سوى الموتِ والدّمارِ بخلافِ جلجامشَ الحكيمَ الذي يدفعُ الخطرَ عن أهلِ الأرضِ بنفسِهِ. قَالَ جلجامشُ مخاطباً عشتارَ: مَنْ هو الحبيبُ الذي عَشِقْتِ إلى الأبدِ؟ من هو الحاكمُ الذي سَمَا عليكِ؟ تعالي لأُفْصِحَ لَكِ عن محبِّيْكِ.. فلاحِظْ الآنَ أينَ يكمنُ التّوجهُ الفكريُّ والنّفسيُ لجلجامشَ. إنَّهُ مَلِكٌ وحاكمٌ ولكنَّهُ انفردَ بصفةٍ لَيْسَتْ في الحُكَّامِ أمثالِهِ وهي سُمُوُّهُ على الحياةِ الواطئةِ. وإذن فأيٌّ من عشّاقِ عشتارَ سوفَ يذكِرُهُ جلجامشُ؟. طبيعيٌّ إنَّ الحياةَ تعني حالةَ العيشِ التي يراهَا في كلِّ الكائناتِ الحيّةِ، وكلُّ كائنٍ حيٍّ هو مثالٌ صالحٌ لمكيدةِ عشتارَ!. بَلْ إنّ اسمَهَا نفسَهُ يوحي بهذه المكيدةِ، إذ لا تعني عشتارُ إلا لفظاً منحوتاً من العيشِ والشّترِ. والشّترُ في العربيةِ هو القطعُ، والشّاترُ القاطعُ، والمشتورُ الفاني الهالكُ. فهي إذن (عاش + شتر)، والنّاتجُ إمّا عاشَ مُنْقَطِعَاً أو انقطعَ عيشُهُ!. ولكنَّ الحياةَ كَمَا هي نراها محبوبةً عِنْدَ الأكثريةِ، ومحتملٌ أن تكونَ معبودةً (الآنَ) أكثرَ مِمَّا كَانَتْ معبودةً في وادي الرّافدين! بَلْ نراها مفضَّلةً عِنْدَ كثيرينَ على الإلهِ الواحدِ نفسِهِ. ويحاولُ نصُّ المَلْحَمَة أنْ ينبِّهَ إلى غفلةِ الإنسانِ من مكيدةِ عشتارَ خلالَ عرضِهِ للنّماذجِ التي انخدَعَتْ بعشتارَ ووقعتْ ضحيةً لها. لَقَدْ كَانَ التّيارُ السّياسيُّ في العراقَ القديمَ يسيرُ بالرّمزِ تَبَعَاً للظروفِ والحاجةِ، ولكنَّ الفكرَ الاجتماعيَّ أو الشّعبيَّ العامَّ لا يتّفقُ دوماً مَعَ الفكرِ السّياسيِّ كَمَا هو الحالُ في كلِّ زمانٍ. وتلكَ حقيقةٌ يَجَِبُ أنْ لا تُغْفَلُ عِنْدَ الحديثِ عن الرّمزِ. فإذا كَانَتْ عشتارُ قَدْ عُبِدَتْ كإلهٍ أو ربٍّ سياسياً، فهي ربٌّ مكفورٌ بِهِ ومُهانٌ في الفكرِ الدّينيِّ والاجتماعيِّ العامِّ. ولكنَّ عبادتَهَا كإلهٍ أو ربٍّ فهي أمرٌ مشكوكٌ فيه جدّاً، ذلِكَ لأنَّ طبيعتَهَا في هذا المنصبِ لا تختلفُ مطلقاً عن طبيعتِهَا في المَلْحَمَة كونها رمزاً للحياةِ الدّنيا. ذلِكَ لأنَّ من طبيعةِ الحياة الدّنيا أنْ تكونَ غريبةَ الطّباعِ متقلّبةَ المزاجِ بَيْنَ عشّيةٍ وضُحاهَا، وهي حالاتٌ للدنيا عبَّرَ عنها الفكرُ الشّعبيُّ والأدبُ العربيُّ بَلْ والعالميُّ في كلِّ العصورِ. وبالتّالي فإنَّ طبيعتَها لا تُثيرُ استغراباً ما، كَمَا لو قُلْتَ إنّها إلهٌ أو ربٌّ معبودٌ، فَقَدْ احتارَ الباحثونَ في طبيعةِ عشتارَ حتّى أثارَ ذلِكَ استغرابَهم!. وهذا طبيعيٌّ لأنّهم تصوّروها إلهاً للعراقَ القديمَ لا رمزاً للحياةِ الدّنيا. فالنّتيجةُ الوحيدةُ هي أنّهم عجزوا ويعجزونَ عن تحديدِ صلاحياتِ هذا الإلهِ. لَمْ يكن العراقيُّ القديمُ إذن بهذا الحمقِ ليتخّذَ لنفسّه إلهاً واجبُهُ النّهاريُّ القيامُ بالحروبِ ولكنَّهُ في اللّيلِ يكونُ مسئولاً عن الملذات والجّماع!. ومحاولتُهُم جَعْلَهَا إلهاً (للحربِ والحبِّ) فاشلةٌ.. فأين الحبُّ من الحَرْبِ؟ وما علاقتُهَا بالإنجابِ والولادةِ وظهورِ النّباتاتِ؟ وما علاقتُهَا بالرّياحِ وتمّوزَ والرّاعيِّ والأسدِ حيثُ عَشَقَتْهُم؟ وهكذا.. وقعَ الباحثونَ في دائرةٍ ضيّقةٍ جداً من التّحليلِ لمرموزاتِ العراقَ القديمَ. قَالَ صاحبُ كتابِ (الفكرِ السّياسي في العراق القديم ... القيصر $ | |
|
| |
{ القيصر }
عدد المساهمات : 311 النقاط : 517 الشُّهرة : 3 تاريخ التسجيل : 20/03/2011 العمر : 35 المكان : سوريا - حمص - مقيم في السعودية الجنس : المزاج : اعتباراً من الغد
| موضوع: رد: ملمحمة جلجامش البابلية السبت 25 يونيو 2011, 9:09 pm | |
| المقطع الرابع عشر وأهميّةُ عشتارَ ووظيفتُهَا تتراوحان من مكانٍ إلى آخرٍ ومن زمانٍ إلى آخر فإذا كَانَتْ في الصّباحِ آلهةَ الحربِ فإنّها في المساءِ آلهةَ الّلذةِ). الفّكر السّياسي في العراق القديم/عبد الرّضا الطّعان-381 وهذا النصُّ يمثّلُ محنةَ الباحثينَ في تفسيرِ طبيعةِ عشتارَ. أمّا حينَمَا تكونُ رمزاً للحياةِ الدّنيا، فمن المؤكّدِ أنّ كلَّ نشاطٍ هو من صلاحياتِ وأعمالِ عشتارَ، بَلْ تذهبُ المَلْحَمَة إلى أبعدِ من ذلِكَ، تذهبُ إلى بعدٍ فلسفيٍّّ عالٍ حينَمَا تجعلُ معنى الحياةِ عامّاً جدّاً. فالموجوداتُ كلُّها تتصّفُ بالحياةِ من حيثُ أنّها متحرّكةٌ وأنّ الحركةَ هي الحياةُ. وَلِذَلِكَ اختارَ جلجامشُ البارعُ في البلاغِة وعِلمِْ الكلامِ نماذجَ مختلفةً جدّاً تمثِّلُ الحركةَ بكافّةِ صورِهَا. فالزّمنُ هو الآخرُ كائنٌ حيٌّ لأنّه متحرّكٌ، وبالتّالي فإنّهُ من عُشَّاقِ عشتارَ! وهكذا ذَكَرَ جلجامشُ ستةُ نماذجٍ وتركَ السّابعَ ليكونَ هو المقصودَ قائلاً: وإذا أحببتُكِ فسيكونُ مصيري مثلَهُمْ والنّماذج التي ذكرها هي: 1. تمّوز (فصل)، 2. الطّير، 3. الأسد، 4. الحصان، 5. الرّاعي، 6. المزارع (إيشو للانو). إنّ هذا التّرتيبَ العدديَّ له مقاصدٌ. فإنَّ أيّامَ الخلقِ ستةُ أيّامٍ، وفي اليّومِ السّابعِ ينتهي عمرُ الكونِ أو كَمَا قيلَ في الحديثِ الشّريفِ (الدّنيا جمعةٌ من جُمَعِ الآخرةِ ـ أي أسبوع ـ)، فكذلك رفضَ جلجامشُ أن يكونَ ضحيَّتُها السّابعةُ. وكلُّ هؤلاءِ قَدْ أصابَهُم من انقطاعِ العيشِ بعد مسخِهِم ما أصابَهُم، وهم رموزٌ واضحةٌ لابتلاءِ الكائناتِ بعضِها ببعضٍ في الحياةِ. ومن الضّروريِّ أنْ نأخذَ نموذجينِ منهما في الأقلِّ لنلاحظَ كيفَ شَحَنَ الكاتبُ فلسفتَهُ التناقضيةَ لتفسيرِ العالمِ من خلالِ هذِهِ الرّموزِ مُظْهِراً الجدليّةَ الأعمقَ غوراً في الوجودِ، إذ جعلَ فصلَ تمّوزَ أَحَدَ الكائناتِ المفعمةِ بالحركةِ والتي خُدِعَتْ بمكيدةِ عشتارَ. فالرّاعيُّ مثلاً مُسِخَ ذئباً. وتبدو هذِهِ العمليّةُ من غيرِ دراسةٍ وكأنّها أوهامٌ أو أساطيرٌ.. بَيْدَ أنّها جزءٌ من النّسيجِ الفكريِّ المتلاحمِ لعملِ الرّموزِ مَعَ بعضِهَا البعضِ لإظهارِ التّناقضِ الجوهريِّ الكامنِ في طبقةٍ أعمقَ من الوجودِ، أي الذي هو تحتَ السّطحِ الذي يحكمُهُ مبدأُ عدمِ التّناقضِ. كيف ذلِكَ؟.. لأنّ الرّاعيَّ في حالةٍ من التّناقضِ مَعَ القطيعِ الذي يرعاهُ. فهو يهوي بِهِ إلى مواطنِ الكلأ ويقدّمُ الأعلافَ ليزيدَ من عددِ الماشيةِ بالتوالدِ ولتكونَ الأفرادُ أكثرَ سمناً. ولكنَّهُ في الواقعِ لا يفعلُ ذلِكَ إلاَّ ليكونَ القطيعُ طعامَهُ. فالملحمةُ لا تتحدّثُ عن تناقضِ القطيعِ نفسِهِ لكونِهِ (آكل ـ ومن ثمّ مأكول)، فهذا تناقضٌ ظاهريٌّ. بَلْ تتحدّثُ عن الرّاعي، إذ يرى نفسَهَ أفضلَ من القطيعِ، وَلَمْ يَمُرْ بحالةٍ من التّناقضِ مثلَهُ لتبرهنَ له أنّ الأمرَ سواءٌ بسواءٍ!، لأنَّهُ قَدْ تحوّلَ في حقيقةِ الأمرِ إلى (ذئبٍ). فالذئبُ يفترِسُ القطيعَ من غيرِ أنْ يرعاه، أمّا هو فإنَّهُ يرعاهُ ثمّ يفترسُهُ، فهو مَسْخٌ لا غير. وَقَدْ تقولُ: (وما هو الحلُّ؟ هل تنصحُنا المَلْحَمَة بعدمِ أكلِ الّلحومِ التي هي ألذِّ الأطعمةِ؟) كلاَّ.. إنّ المَلْحَمَة تقدِّمُ الحلولَ من خلالِ كاملِ النصِّ.. إنّها تنبِّهُ إلى أنَّ هذِهِ السّيادةَ في الحياةِ مشمولةٌ بنفسِ الخدعةِ، فهي سيادةٌ وهميةٌ، إذ سيقومُ هذا السيّدُ بخداعِ هذِهِ الكائناتِ وذبحِهَا. فاقتناعُهُ بحياةٍ على مثلِ هذِهِ الصّورةِ المشوّهةِ هو مثلُ قناعتِهِ بأن يكونَ مسخاً كالذّئبِ. وأمّا الحلُّ فهو في الارتباطِ بخالقِ الحياةِ ورفضِ الإذعانِ لعشتارَ. فالذي خَلَقَ هذِهِ الصورةَ المشوّهةَ للحياةِ، إنّما أعطى إشارةً واضحةً إلى أنَّهُ يمتلكُ الوجهَ الحَقيقيَّ الآخرَ للحياةِ. وَقَدْ تقولُ: (إنّ هذا الوجهَ إنّما يأتي بِهِ هذا الحلُّ بعد انقضاءِ هذِهِ الحياةِ، فالنّتيجةُ تبقى هيَ هي). الجّواب: إنَّ تِلْكَ هي واحدةٌ أخرى من الصورِ المشوّهةِ التي قدَّمَتْها عشتارُ عن طريقِ عشّاقِها. لَقَدْ أثبتنا في مؤلّفاتٍ أخرى وبأدلّةٍ قاطعةٍ أنّ الحياةَ الأبديّةَ (الآخرةَ) هي حياةٌ بديلةٌ لهذه تحلُّ محلَّهَا، وَلَيْسَتْ هي في موقعٍ جغرافيٍّ آخرٍ، وإنَّ الوصولَ إليها يستلزمُ تغييراً في النّظامِ الطّبيعي، وإنَّ الأديانَ السّماويةَ إنّما جاءتْ لتبشِّرَ بهذا التغييرِ المرتبطِ شرطيّاً بإتِّباعِ النّاسِ (ولو جزءً منهم كنواةٍ أوّليّةٍ) لتعاليمِ السّماءِ. بَيْدَ أنَّ هذِهِ الفكرةَ قَدْ شُوِّهَتْ تشويهاً تامّاً بحيثُ لَمْ يبقَ من الأديانِ إلاَّ الأسماءَ بعد إنْ تمَّ تبديلُ محتواهَا الأساسيِّ المرتبطِ بهذا التّغييرِ. إذن فالملحمةُ تُخبرُنا بإمكانيةِ الحصولِ على هذِهِ الحياةِ الأخرى خلافاً لما هو سائدٍ في تفسيرِهَا، إذ أنّ فشلَ جلجامشَ في الحصولِ على الخلودِ كَانَ سببُهُ (وجودَ الآخرينَ) الذينَ قطعوا عليه طريقَ الخلودِ. أمّا هو فَقَدْ نجحَ عمليّاً في الحصولِ عليه. ومعنى ذلِكَ أنَّ الطبيعةَ لا تتغيرُ لمجرَّدِ وجودِ فردٍ واحدٍ مثلَ جلجامشَ! إذ يتوجّبُ على مجموعةٍ من الجنسِ البشريِّ أن تكونَ كذلك لتشكِّلَ نواةً صالحةً تستحقُّ هذا التغييرَ. وأمّا إذا لَمْ يحاولْ الإنسانُ أيَّةَ محاولةٍ باتجاهِ هذا الهدفِ فهو إذن مسخٌ لا يفقدُ سيادتَهُ على الكائناتِ وحسب، وإنّما سيكونُ أسوأَهَا في سُلَّمِ التّرقي. ويبدو أنَّ الفكرةَ قَدْ اختُصِرَتْ أخيراً في آخرِ كتابٍ منزَّلٍ من السّماءِ في عبارَةِ: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِيْن) (التّين:6) قَالَ جلجامشُ: وأحببْتِ راعي القطيعِ الذي يَعْقِرُ لكِ العجولَ كلَّ يومٍ ولكنَّكِ ضَرَبْتِهِ محوِّلةً إيَّاهُ ذئباً! لماذا يَنحِرُ الرّاعي العجولَ ولِمَنْ؟ إنَّهُ ينحرُهَا ليأكلَ الإنسانُ وتستمرَّ الحياةُ… إنَّهُ ينحرُ لأجلِ عشتارَ الجليلةَ!!!. وحينما يقسو قلبُ الإنسانِ بهذه الممارسةِ المتناقضةِ فإنّها تنعكسُ ولا ريبَ على سلوكِهِ مَعَ أفرادِ جنسِهِ أيضاً. وهنا يذهبُ النصُّ إلى بُعْدٍ آخرٍ في تصويرِ التّناقضِ، حيثُ يستخدمُ العبارات نفسَهَا لتصويرِ علاقةِ الإنسانِ بالإنسانِ: وصارَ يطاردُهُ الآنَ إلفُهُ من حُمَاةِ القطيعِ وكلابُهُ تَعِضُّ سَاقيْهِ فحينما تحوَّلَ الرّاعي إلى مجرَّدِ مِسْخٍ (ذئبٍ) جرى تحوُّلٌ مماثلٌ في جميعِ الطّبقاتِ المتشابهةِ والواقعةِ تحتَ سطوةِ عشتارَ. فمن المؤكّدِ إذن أنَّ حماةَ القطيعِ (قطيعِ الرّعاةِ لا قطيعَ الجِداءِ) صاروا يُطاردونَ رعيَّتَهُم مثلما نَحَرَ الرّاعي رعيَّتَهُ في النّهاية. وأمّا كلابُهُم (وهُمْ هنا الأعوانُ والجّندُ) فإنَّهُم صاروا يَنهِشونَ ساقَيهِ. وهكذا يستمرُّ جلجامشُ في سَرْدِ نماذجِهِ لعشّاقِ عشتارَ، بَيْدَ أنَّهُ اختارَهُم اختياراً مُحدَّداً لإظهارِ جميعِ الأصنافِ المحتملةِ من الكائناتِ في ابتلاءِ بعضِها ببعضٍ بهذه الخدعةِ. حتّى الزراعة التي تُعْتَبَرُ من أشرفِ المهنِ وأكثرِهَا بُعْداً عن الخداعِ اختارَ مِنْهَا جلجامشُ نموذجاً لضحايا عشتارَ، ذلِكَ لأنَّ الحياةَ هي حياةٌ واحدةٌ للجميعِ. فالمُزارِعُ بالرّغمِ من حَذَرِهِ الشّديدِ من عشتارَ إلاَّ أنَّهُ وَقَعَ في حبائلِهَا أيضاً. ذلِكَ أنَّ المُزارعَ يطوِّرُ زراعَتَهُ ويكونُ من الأثرياءِ جدّاً. ولكن(إيشو ـ لنو) آثَرَ القَناعةَ بالقليلِ كَمَا يبدو على الكثيرِ الذي يَجلِبُ العارَ على حدِّ تعبيرِهِ!. وهو التّعبيرُ الذي ذَكَرَهُ مُجيباً عشتارَ على مغازلتِهَا له حينَمَا قالت: تَعالَ يا حَبيبي إيشو ـ لنو وَدِعْني أتمتَّعُ برجولتِكَ مُدَّ يدَكَ والمَسْ مفاتنَ جسمِي فقالَ لكِ (إيشو ـ لنو) ماذا تَرومينَ مِنِّي؟ ألمْ تخبزْ أُمِّي فآكلُ من خُبزِهَا؟ فلماذا آكِلُ من خبزِ الخَنَا والعارِ؟ ولكن المُزارعَ إذا صارَ قنوعاً إلى هذا الحدِّ فماذا يحصلُ؟.. الذي يحصلُ أنّه لن يقومَ بفعلِ شيءٍ يُنمِّي ثروتَهُ أو زراعتَهُ. ولمّا كَانَتْ حالةُ الأرضِ في مثلِ هذا السّلوكِ تسوءُ دوماً، إذ تهاجمُهَا الأملاحُ والقصبُ فسوف يفتقرُ شيئاً فشيئاً، وسوف يهلكُ نفسَهُ في الحصولِ على القوتِ ويسبقُهُ الزّمنُ فيبقى لاهثاً في شقاءٍ طويلٍ مقابلَ مردودٍ ضئيلٍ جدّاً. وباختصارٍ سيتحوّلُ إلى (ضفدعٍ برمائيٍّ) نصفُهُ في الطّينِ ونصفُهُ في اليابسةِ، وهي صورةٌ تدِلُّ على روعةِ اختيارِ المَلْحَمَة لهذا النّموذجِ الذي لا زالَ قائماً في هذِهِ السّاعةِ في أنحاءِ العراق الوسطى ... القيصر $ | |
|
| |
{ القيصر }
عدد المساهمات : 311 النقاط : 517 الشُّهرة : 3 تاريخ التسجيل : 20/03/2011 العمر : 35 المكان : سوريا - حمص - مقيم في السعودية الجنس : المزاج : اعتباراً من الغد
| موضوع: رد: ملمحمة جلجامش البابلية السبت 25 يونيو 2011, 9:11 pm | |
| المقطع الخامس عشر والجنوبية خصوصاً: وأنتِ لمّا سمعتِ قولَهُ هذا ضَرَبْتِهِ بعصَاكِ ومَسَخْتِهِ ضفدعاً ووضعتِهِ وسطَ الحقولِ فلا يستطيعُ أنْ يعلوَ مرتفعاً ولا ينزلَ مُنحدِراً..!! وبمثلِ ذلِكَ يمكنُنَا تحليلُ بقيّةِ النّماذجِ من ضحايا عشتارَ، وهم مجموعةُ الكائناتِ المُهانةِ الذين أذلَّتهُم عشتارُ لأنّهم قبلوها كحبيبةٍ لهم أو غفلوا عن مكائدِهَا. وهنا تظهرُ أهميةُ (الوعي) باعتبارِهِ المُنقذَ الوحيدَ للإنسانِ لأنَّ المزارعَ لَمْ تسعفْهُ نواياهُ الحسنةُ وحدُهَا في الخروجِ من شُبَاكِ المصيدةِ التي ألْقَتْ بها عشتارُ على الكائناتِ. ثمَّ خَتَمَ جلجامشُ خطابَهُ هذا بالقولِ: وإذا أحْبَبْتِني فَسَوفَ تَجعليْني مِثْلَهُم ولكن أقوالَ جلجامشَ هذِهِ تمثِّلُ من ناحيةٍ أخرى اعتراضاً صارخاً على (إرادةِ اللهِ) التي شاءَ بها أنْ تكونَ الحياةُ (النّموذجُ الأوّلُ) على هذِهِ الصّورةِ. هذا ما يدورُ في أذهانِ البعضِ وإنْ كَانَ هو اعتراضاً لا منطقياً.. ولكنَّ النّصَّ جعَلَهُ من اعتراضاتِ عشتارَ ربَّةِ هؤلاء المعترضين! إذن فلا بدَّ أن تقدِّمَ عشتارُ شكوى إلى (والدِهَا) الذي جاءَ بها إلى الوجودِ، والمقصودُ بالطّبعِ (آنو) كبيرُ آلهةِ السّماءِ حَسَبَ الشُرّاح ممَّا نراهُ في الموضوعِ الآتي. رَمْزيَّةُ الثَّوْرِ السَّمَاوي بَعْدَ الإهاناتِ التي قدَّمَهَا جلجامشُ لعشتارَ كان لا بدَّ لها من أن تقدِّمَ شكوىً ضدَّهُ إلى مصدرِ وجودِهَا (أبيها) الذي هو آنو. ومع إنّنا سنحاولُ فكَّ الرّمزِ في الثّورِ السّماويِّ إلاَّ أنّ النّتائجَ يؤيِّدُ بعضُهَا بعضاً، إذ سيكشِفُ التحليلُ عن مزيدٍ من الدّلائلِ على رمزيةِ عشتارَ كونها تمثِّلُ الحياةَ الدّنيا: ولمَّا سمِعَتْ عشتارُ هذا استشاطَتْ غضباً (غيضاً) وَعَلَتْ إلى السّماءِ صَعَدَتْ عشتارُ وَمَثَلَتْ أمامَ أبيها (آنو) وفي حضرةِ أمِّهَا (آنتوم) جَرَتْ دموعُهَا وقالتْ يا أبي إنَّ جلجامشَ سبنَّي وأهانني (عَزَرَنِي) لقد عدَّدَ جلجامشُ مثالِبي وعاري وفحشَائي لقد أحسنَ المترجمُ هنا حينما وضعَ (عَزَرَني) بديلاً محتملاً للسبِّ. فقد وَرَدَ النصُّ الأصلي هكذا: أ ـ بي ـ إيلو ـ كل ـ كا ـ مش أيت ـ تا أز زا ـ را ـ ني. قال الأحمد في الهامش: إيت تا ززاراني ـ فِعْلٌ ماضيٌّ تامٌّ من المصدرِ نازارو. وأقولُ: إنّ هذا أمرٌ عجيبٌ، إذ كيف تأخذُ صيغةَ الماضي التّامِّ رموزاً صوتيّةً أكثرَ من الفعلِ نفسِهِ؟ لا بدَّ إذن أن تكونَ (أيت-تا) واحدةً منها في الأقلِّ مفردةً أخرى ذاتَ دلالةٍ. وقولُهُ: ("نازارو" بمعنى "لَعَنَ").. فهو قولٌ مستحيلٌ لا ينسجمُ مع وحدةِ الموضوعِ. وأقرَّرُ هذا الحكمَ وإن كنتُ أجهلُ هذه اللّغةَ وأفتقِرُ إلى أيِّ مصدرٍ أو قاموسٍ لها. ذلك أنَّ الحكماءَ لا يلعنون الحياةَ الدّنيا، وإنَّما يعدِّدون مثالبَهَا فقط. ومن المُحتملِ أنْ يكون الفعلُ هذا هو نفسَهُ الفعلَ العربيَّ (أزْرَى) من الزّرايةِ. وهي لفظةٌ تختلفُ دلالياً عن اللّعنِ. أمّا لفظ (عَزَرَني) الذي وضعَهُ طه باقر فهو بعيدُ لأنّهُ يستلزِمُ وجودَ شيءٍِ مشخّصٍ لهُ حدودٌ. وعلى هذا تكونُ التّرجمةُ المقترحةُ من قبلنا هي: أبي إنّ جلجامشَ (جدّاً) أزْرَاني لقد أرادتْ الملحمةُ وبطريقةٍ فذّةٍ تدميرَ المسّلمّاتِ الفكريةِ الخاطئةِ عندَ النّاسِ، وكذلك تدميرَ جملةٍ من منطِقِهِم الملتوي الذي يحسِبُونَهُ صَحيحاً. إذ رُبَّما يَحسِبُ المرءُ أنّ (آنو) يمكنُ أن يستقبلَ شكايةً على جلجامشَ المتَّصِفَ بالحكمةِ من عشتارَ!. لأنَّ مثلَ هذا الحسابَ قد توجَّهَ به البعضُ إلى الأديانِ السّماويةِ بالفعلِ على صيغةِ أسئلةٍ من أمثلتِهَا: (لماذا يَذِمُّ الأولياءُ والأنبياءُ الدّنيا؟.. لماذا يُكرِّسُ مَنْ هو مثلُ الإمامِ علي (ع) جُلَّ خُطَبِهِ في عَدِّ مثالبِ الدّنيا؟.. أليستْ الدّنيا مِنْ خَلْقِ اللهِ وتمثِّلُ إرادتَهُ؟). فمِثْلُ هذا الحسابِ يسقِطُ فوراً بناءاً على التّحليلِ السّابقِ الذي خلاصتُهُ: (إنَّ اللهَ تعالى خَلَقَهَا أصْلاً لهذه الغايةِ، أي للتمييزِ بين الفئتين: فئةِ الذين يرصدونَ مثالبَهَا، وفئةِ الذين تُعجبُهُم. فهو تعالى مع الفريقِ الأوَّلِ وضدَّ الفريقِ الثاني). ولكنَّ هذا الموقفَ ليس مجرَّدَ موقفٍ فكريٍّ.. إنَّهُ موقفٌ عمليٌّ، ولكنّه لا يَظهرُ كنتائجٍ ملموسةٍ إلاَّ حينَ يحصلُ الفرزُ التّامُ بين الفريقَيْنِ الأمر الذي لم يحصلْ لحدِّ اليّوم، إذ يتوّجبُ على الفريقِ الأوّلِ (السّعيَ) لتحصيلِ الثّمرةِ العمليّةِ لا مجرَّدَ انتظارِ حصولِ (آخرةٍ) في موقعٍ جغرافيٍّ من السماءِ بعيدٍ!. فالآخرةُ تعبيرٌ زمانيٌّ لا أَثَرَ للمكانِ فيه، وتمثِّلُ هذه الفكرةَ روحَ الأديانِ السّماويةِ التي شُوِّهَتْ في جمِيعِها تشويهاً كاملاً بفضلِ الاعتباطِ اللغويِ، ذلك أنَّ الإنسانَ كائنٌ بطيءُ التّعلُّمِ إلى حدٍّ مُقْرفٍ، وينخدعُ بسهولةٍ عجيبةٍ. وهكذا بَدَتْ الملحمةُ وكأنَّها تحاولُ أن تعلِّمَ الإنسانَ المبادئَ الأولى لوجودِِهِ وأهدافِهِ وغاياتِهِ في تجانسٍ يَندِرُ وجودُهُ في أيِّ نصٍّ أدبيٍّ آخرٍ. فهي إذ تسمحُ بتقديمِ الشّكوى من عشتارَ من جهةً، فإنَّها تمنعُ من جهةٍ أخرى عن قبولِهَا من قبلِ آنو. وهكذا ظهرَ آنو مؤيّداً لجلجامشَ ضدَّ عشتارَ!. وهذا هو المطلوبُ في الدّرسِ الأوّلِ الذي هو أبسطُ دروسِ الملحمةِ. أجابَ آنو على شكوى عشتارَ قائلاً: أَلَمْ تكوني السّببَ؟ أَلَمْ تَتَحرَّشي بجلجامشَ المَلِكِ؛ فَجَنَيْتِ الثّمرةَ؟ فَعَدَّدَ جلجامشُ فحشاءَكِ وعَدَّدَ مثالبَكِ وعارَكِ؟ لقد بدا آنو هنا يؤيِّدُ جلجامشَ تأييداً كاملاً، إذ يُعيدُ أقوالَهَا نفسَهَا ويَرِدُّ عليها شكايتَهَا وهو غيرُ آبهٍ بدموعِهَا الجاريةِ!. وفوقَ ذلك فإنَّ آنو يسمّيْهِ (المَلِكَ)!. وهذا لا يعني إلاَّ شيئاً واحداً فقط هو أنَّ ملوكيةَ جلجامشَ هي وحدُهَا الملوكيةُ الممنوحةُ له من اللهِ في عالمِهِ الذي عاشَ فيه. وهو يعني بناءً على ذلك أنّ حكمتَهُ ومعرفتَهُ للأسرارِ وغزْوَهُ للفضاءِ هي نتائجٌ لهذه الملوكيةِ الإلهيةِ التي لم تكنْ من تنصيبِ الخَلْقِ. وهذا يُذكِّرُنَا بأوّل الملحمةِ حيثُ قالَ النّصُّ: مَنْ؟ مَنْ غيرُ جلجامشَ يستطيعُ أنْ يقولَ: أنا المَلِكُ؟ ونفترضُ أنَّ القارئَ سيتذكَّرُ هذه العباراتِ حينما نَصِلُ في نهاية البحثِ إلى البرهنةِ على أنَّ جلجامشَ هو ذو القرنينِ المذكورُ في القرآنِ الذي قال فيه: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) (الكهف:84) وهو نفسُهُ الذي ذَكَرَتْ نصوصٌ أخرى أنَّهُ أوّلُ مَلِكٍ على الأرضِ من تعيينٍ إلهيٍّ بعدَ الطّوفانِ. وإذن.. فملوكيّةُ جلجامشَ هي الوحيدةُ الملوكيّةُ الإلهيةُ المنشأ، ولذلك تستحيلُ مخادَعَتُهُ. ولكن.. هل هذا هو كلُّ ما لدى عشتارَ من أشياءٍ تقاضي بها جلجامشَ؟ كلاَّ.. بالطّبع. فالتّناقضُ الذي يتحدّّثُ عنه جلجامشُ في الحياةِ هو سُنَّةٌ جاريةٌ وناموسٌ ساري المفعولِ على الجميعِ بما في ذلك جلجامشَ نفسِهِ! ولمّا كانت عشتارُ هي الحياةُ ووظيفةُ الحياةِ هي الخلقَ والتكوينَ، فَلِمَ لا تتقدَّمُ بطلبٍ آخرٍ هو من جملةِ الصّلاحياتِِ الممنوحةِ لها في خَلْقِ وتكوينِ (كائنٍ) بهيميٍّ متوحِّشٍ لِيقفَ مقابلَ جلجامشَ؟. فالتّناقضُ طبيعتُهَا، والخَلْقُ وظيفتُهَا وكلُّ ما تحتاجُهُ هو (توقيعٌ) فقط من آنو على (المقترحِ). لماذا تحتاجُ إلى هذا التّوقيعِ؟.. لأنَّ هناك قوىً أخرى لا تقدِرُ على التحكِّمِ فيها ما لم يوقِّعْ آنو من جملتِهَا (القَدَرُ) الذي لا يقوى حتى أشرسُ عبيدِهَا (الزّمانُ) على إخضاعِهِ ما لم يلوي آنو عُنُقَهُ!. وأمّا المعنى العامُّ لذلك فهو (العدلُ)، إذ تقضي العدالةُ أن تعاقبَ الحياةُ الدّنيا أولئكَ الذين يريدون الاستعلاءَ عليها وتحقيرَهَا. أليستْ هي حياةٌ ومن حقوقها الأساسيِّةِ أن تخترعَ المخلوقاتِ؟ أو تسلبَ راحةَ من خَلَقَتْهُ؟. فلتحاولَ إذن إخراجَ المخلوقاتِ الحقيرةِ القذرةِ المؤذيةِ التي تؤذي الرّجالَ الصّالحينَ لتعاقبَهُم على إهمالِهِم لها. فلتطلبَ إذن أن يَخْلُقَ آنو لها (ثوراً)!، إذ لا يقابلُ الحكماءَ سوى الثيران، ثوراً يُزبدُ ويرعدُ… لا علاقةَ له بالمنطقِ المتّفقِ عليه بين العقلاء. وربّما تكون تلك المفردةُ هي الوحيدةُ الملائمةُ لوصفِ أعداءِ الصّالحينَ من الرّجالِ. فليس بدعاً أن نجدَ الإمامَ عليٍّ (ع) يستعملُهَا ذاتَهَا لوصفِ قائدٍ كبيرٍ انشقَّ أخيراً وتوجَّهَ بجيشٍ لحربِهِ. وتتّصِفُ المعادلةُ بأن تقوم القوّةُ العمياءُ بمواجهةِِ الحكمةِ الواعيةِ. وهذا هو حقُّ عشتارَ.. ولكن لمَّا كان آنو حكيماً، بل أحكمُ الجميعِ فهو إذن يدرك أحقيَّةَ عشتارَ بهذا المطلبِ، ولكن هناك مشكلةً واحدةً فقط. فإنَّ الثّيرانَ الهائجةَ تسبِّبُ منازعاتٍ وفتناَ وحروباً في النّهاية، وهي بذلك تستنزِفُ الطّاقاتِ، وهو أمرٌ يعرقِلُ مسيرةَ الحياةِ نفسِهَا.. أَوَ ليسَ من الحُمْقِ أن تقومَ عشتارَ بإهلاكِ نفسِهَا؟ يستخدم آنو هذه الورقةَ في محاولةٍ لا لِرَدِّ طلبِهَا، بل لإجراءِ تعديلٍ فيه يتضمَّنُ وضعَ شرطٍ أساسيٍّ. ذلك أنّ الصّراعَ ليس مشكلةً بالنّسبةِ لآنو، بل يبدو أنّ الصّراعَ يخدمُ قضيّةَ آنو أصلاً ولكنْ بشرطِ أن لا يؤدّي إلى توقّفِ الحركةِ نهائيّاً. فالفتنُ هي سبيلُهُ الوحيدُ لإفهامِ الكائناتِ أنّها عديمةُ القيمةِ بغيرِ آنو!. إذن فقبولُ الشّكوى على جلجامشَ شيءٌ وخَلْقُ ثورٍ يواجهه شيء آخر!.. وَرَدُّ الشّكوى لا يعني أنّْ لا يوافقَ على إدخالِ جلجامشَ في صراعٍ!.. فلماذا إذن أحبَّهُ ومنحَهُ المعرفةَ؟.. لأنَّهُ يريدُ أن يميِّزَ به الآخرينَ.. فهو إذن جزءٌ من الصّراعِ. قال آنو: إذا أَردْتِ أنْ أفعلَ ما تريدينَ منِّي فسوفِ تكونُ سبعُ سنينَ من القحطِ فهل جمعتِ حبوباً للنّاسِ؟ وحشيشاً للدوَّابِ؟ لأنَّهُ إذا خَلَقَ ثوراً هائجاً ليواجَهَ جلجامشَ فسوف تحدِثُ فتنةٌ في المجتمعِ وصراعٌ يؤدّي إلى توقُّفٍ في المعايشِ. وإذن فواجبُ الحياةِ (عشتارَ) أنْ تقدِّمَ المُؤَنَ اللازمةَ لاستمرارِ العيشِ خلالَ فترةِ الصّراعِ. ويبدو من هذا النصِّ بشكلٍ جليٍّ أنَّ آنو يرغبُ أو يشتهي إحداثَ الصّراعِ أصلاً فلا يحتاجُ إلى شيءٍ من الحثِّ، فهو لا يشترطُ للبدءِ فوراً أيَّ شيءٍ سوى ما يَسِدُّ الرّمقَ: حبوباً للنّاس وحشيشاً للدوَّاب!!. فهذا يؤكِّدُ الفكرةَ الدّينيةَ العامّةَ من أنَّ الفِتَنَ مفيدةٌ لقضيّةِ الإلهِ، إذ بها يتميَّزُ الفريقان: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:2) وما أسرعَ ما أجابتْ عشتارُ قائلةً إنَّ هذه الشروطَ متوفرةٌ وحسبُ الأصولِ: لقد جمعت حبوباً للنّاس وحشيشاً للدوَّابِ فإذا وَقَعَتْ سبعُ سنينَ من القحطِ فقد جمعتُ أنا حبوباً للناسِ وحشيشاً كاملَ النموِّ للدوَّاب و….. ... القيصر $ | |
|
| |
{ القيصر }
عدد المساهمات : 311 النقاط : 517 الشُّهرة : 3 تاريخ التسجيل : 20/03/2011 العمر : 35 المكان : سوريا - حمص - مقيم في السعودية الجنس : المزاج : اعتباراً من الغد
| موضوع: رد: ملمحمة جلجامش البابلية السبت 25 يونيو 2011, 9:13 pm | |
| المقطع السادس عشر ويظهر أنَّّها عَدَّدَتْ أشياءٍ إضافيةً أخرى خُرِمَتْ من النّصِّ. وتستمرُّ السطورُ المخرومةُ فلا ندري كيف تمَّ خَلْقُ الثورِ. لكنَّ أغلبَ الظنِّ أن الثيرانَ النائمةَ كثيرةٌ ومتوفِّرَةٌ ولا تحتاجُ إلى شيءٍ سوى التّحفيزِ. فهي تفيقُ وتُحرِّكُ قرونَهَا حالما يستلِمُّ الحكماءُ دستَ الحُكْمِ.. أمَّا ما عدا ذلك فهي ملتهبةٌ (بينَ نثيلِهَا ومعتلفِهَا)، ذلكَ أنَّ الحكماءَ لا يسمحونَ لها بالنومِ المشروطِ بهذا الشّرطِ، فَليْسَ في دولةِ الحكماءِ ثيرانٌ تَنامُ ويأتيَهَا علفُهَا كلَّ يومٍ!.. وإذن فهياجُ الثيرانِ في دولةِ الحكماءِ أمرٌ لا مفرَّ منه حيثُ تهتاجُ وتُحرِّكُ قطعانَ الجماهيرِ المغفَّلةِ لتُقارعَ الحكماءَ.. وهذا ما حدَّثَتْنَا عنه الملحمةُ بعد ذلك. فحينما يستقيمُ النصُّ للترجمةِ نفاجأُ بشخيرِ الثّورِ!. وهذا الشّخيرً تعبيرٌُ عن الفتنةِ بقيادةِ الثورِ الذي يحرِّضُ الجماهيرَ المغفَّلةَ على الانقلابِ. فمن البديهي أنْ تَحْدِثَ خسائرٌ في النّفوسِ خلالَ هيجانِ الثّيرانِ: … لأوروك…. ..قَتَلَ في شخيرِهِ الأوّلِ مائةَ رَجُلٍ ومائتي رَجُلٍ.. وثلاثمائة رَجُلٍ ….. رَجُلٍ وَقَتَلَ في شخيرِهِ الثّاني مائةَ رَجُلٍ ومائتي رَجُلٍ وثلاثمائة رَجُلٍ ….وسط …. وفي شخيرِهِ الثّالثِ قَفَزَ على أنكيدو وَصَدَّ أنكيدو هجومَهُ… وَرَكَبَ أنكيدو على الثّورِ وأمسَكَ بقرنيهِ وَقَذَفَ الثّورُ الوحشيُّ رغوتَهُ بوجْهِ أنكيدو …. إذن تقومُ الثيرانُ بإثارةِ الفِتَنِ واحدةً تِلْوَ الأخرى فتموتُ الأعدادُ الغفيرةُ المتصاعدةُ (عددياً) من الرّجالِ والرّجالِ فقط لأنَّهُم مادةُ الحربِ. وفي الشّخيرِ الثّالثِ الذي يصِلُ فيه إلى أنكيدو (الظهيرُ القويُّ لجلجامش) يُقرِّرُ المجابهةَ فَيَصِدُّ هجومَهُ ثمَّ يركبُ على الثورِ ممسكاً بقرنيهِ في رمزٍ آخرٍ من روائعِ رموزِ الملحمةِ. ذلك أنَّ الحكمةَ هي ضالّةُ الرّجالِ الصّالحينَ، وحينما يريدونَ تهدئةَ الفتنةِ فليْسَ معنى ذلك أنَّهُم ضعفاءُ، فإذا اقتضى الأمرُ أنْ يركبوا الثورَ نفسَهُ ويوجِّهونَهُ من خلالِ (قرنيهِ) قدروا على ذلك. لكنَّ الثورَ ألقى برغوتِهِ المزبدةِ بوجهِ أنكيدو. وتلك رموزٌ متواليةٌ تتصاعدٌُ متلاحمةً في مقاطعٍ متراصّةٍ عجيبةِ التكوين كما لو كانت من إلهامٍ سماويٍّ. فالزّبدُ والرّغوةُ إنّما هي تلك الأكاذيبُ والتُهَمُ الباطلةُ والوقائعُ الملفَّقَةُ التي يقذِفُ بها العدوُّ الحاقدُ على الأولياءِ الصّالحينَ عندما يُصيبُهُم العجزُ عن المواجهةِ، إذ يجدون أنفسَهُم مَهْمَا فعلوا وكيفما فعلوا لا يقومونَ إلاَ بكشْفِ أنفسِهِم وتزكيةِ الذين عادوهم. وهي في النّهايةِ (رغوةٌ).. عبارةٌ عن فقاقيعٍ هوائيّةٍ تذهبُ هباءً لأنَّها صادرةٌ عن سَورةِ الحقدِ والحسدِ. وليس إمساكُ أنكيدو بذيلِ الثورِ توطئةً لقتلِهِ بعد ذلك من قبلِ جلجامشَ إلاَّ إشارةً أخرى إلى قدرةِ الحكماء على جعلِ الثيرانِ تدورُ في موضِعِهَا وتتخبَّطُ في اتِّخاذِ قراراتِهَا وتَفقِدُ السيطرةَ على نفسِهَا فَضْلاً عن أنْ تكونَ لها سيطرةٌ على المجتمعِ. وتمثِّلُ هذه اللحظةُ المرحلةَ الحاسمةَ من صراعِ الحكماءِ مع الطّاغوتِ، إذ لا يحتاجُ الحكماءُ إلى إثباتِ حقٍّ من خلالِ باطلٍ، لذلك تخلّى أنكيدو عن الإمساكِ بقرونِ الثورِ ونَزَلَ من على ظهرِهِ وأَمسَكَ بذيلِهِ مُمهِّداً لجلجامشَ حتى يضربَهُ بالسّيفِ بين قرنيهِ ليخورَ خورتَهُ الأخيرةَ، وكأنَّها استمرارٌ لتخبِّطهِ ودورانِهِ حولَ نفسِهِ الذي استبدَّ به طوالَ فترةِ تواجدِهِ في السّاحةِ أمامَ مرأى الجّماهيرِ!. مَناحَةُ عَشْتَارَ عَلَى فَخْذِ الثورِ ما الذي يَحْدِثُ في الفتنِ التي يختِلِقُهُا عبيدُ الدّنيا؟،.. الذي يحدثُ أنَّها تُهلِكُ الحرثَ والنّسلَ وتؤدِّي إلى انقطاعِ الأرزاقِ ويموتُ أناسٌ كثيرونَ، ولكنَّ الحياةَ ليست هي كائناً مجسّداً ينطِقُ مثلَنَا، وإنّما هي تلك الإراداتُ المجتمعةُ عندَ الإنسانِ معَ هذا النّظامِ الطّبيعيِّ النّاقصِ الذي ينتهي بالموتِ. هذه الإراداتُ تَهمِلُ ما حَصَلَ من مصائِبَ وتَنْسى الأبرياءَ الذين هَلَكوا في الفتنِ والمغفلينَ الذين داسَتْهم الأرجلُ، ولا يَبْقى في ذاكرتِهَا سوى شخوصِ الفتنِ، وهي لا تستطيعُ التّفريقَ بينهُمْ، إذ تختلطُ عليها الأسماءُ ويصبحُ الحكماءُ والثيرانُ على مستوىً واحدٍ من الذاكرةِ التاريخيةِ للجماهيرِ. إنَّ عشتارَ تدركُ جيداً حُمْقَ عبيدِهَا، ولا تحتاجُ إلى مزيدِ عناءٍ لإدخالِ الثَّورِ من البابِ الواسعِ للتاريخِ حتّى لو فشلَ عسكرياً مع الحكيمِ جلجامشَ. كلُّ ما تحتاجُهَُ هو (سبباً للذكرى). فالجماهيرُ تُحِبُّ الرموزَ التاريخيةَ، ولا يمكِنُ أنْ تَنْسى بسرعةٍ أنَّ الثَّورَ قد قَتَلَهَا بخوارِهِ أو شخيرِهِ ما لم يحدثْ ربطٌ مأساويٌّ يجعلُ الثورَ هو ضحيَّةَ الجماهيرِ لا العكسَ!. والجمهورُ بسلوكِهِ الجمعيِّ يشجِّعُ عشتارَ على خَلْطِ الأوراقِ معَ بعضِهَا البعضِ، ولذلكَ تستغلُّ عشتارُ أيَّةَ فرصةٍ تَسْنَحُ في هذا المضمارِ، حتّى لو كانتْ الفرصةَ خطأً ما أو حركةً جزئيةً من نفس الفتنةِ. تَصعَدُ عشتارُ على أسوارِ أوروكَ بعدَ مقتلِ الثَّورِ موَلوِلَةً وتصبُّ اللعناتِ على جلجامشَ.. ويغضبُ أنكيدو فيخلعُ فخذَ الثَّورِ المقتولِ ويرمي به عشتارَ… يَرمي بفخْذِ الثَّورِ الأيمنِ بوجْهِ عشتارَ! فَيَا لَهَا من فُرصةٍ فريدةٍ لا تتكرَّرُ! جَمَعَتْ عشتارُ (السّاقطاتِ) مِنْ كلِّ الأصنافِ وأقامَتْ المناحةَ على فَخْذِ الثَّورِ! لا بدَّ لعشتارَ من أنْ تضعَ السُنَنَ والتّقاليدَ الاجتماعيةَ لخدمَةِ قضيَّتِهَا. فالمناحةُ إذا استمرَّتْ على هذا التقليدِ مدَّةً من الزّمنِ فستَجِدُ فيما بَعْدُ كلَّ المدينةِ وهي تبكي الثَّورَ وتترحَّمُ عليه بدلاً من أنْ تبكي نفسَهَا مِمَّا جرى لها من الثَّورِ!. وهكذا استطاعَتْ عشتارُ أن تفوِّضَ حتّى الأخطاءَ لصالِحِهَا. ويرمي النصُّ هنا إلى أنَّ الشرَّ لا تحِدُّهُ حدودٌ أخلاقيةٌ معيّنةٌ بخلافِ الخيرِ، إذ ليسَ مِنْ معنىً للشرِّ سوى غيابِ الأخلاقِ. فهذه الأفعالُ جزءٌ من طبيعةِ الشرِّ، وهو ما يتَّفِقُ مع وصفِ (شوبنهور) المتشائمِ للحياةِ على أنَّها شرٌّ، ولكنَّهُ يختلفُ عنه من ناحيةٍ جوهريةٍ هي أنَّ للحياةِ وجهينِ في الملحمةِ. لذلكَ فإنَّ البطولةَ والفشلَ، والحقَّ والباطلَ، والخلودَ والفناءَ، وكلَّ المتناقضاتِ الأخرى تسيرُ جنباً إلى جنبٍ مع بعضِهَا البعضِ، وهي معروضةٌ لاختيارِ الإنسانِ لِمَا يَشَاءُ منْهَا: جَمَعَتْ عشتارُ المترّهباتِ والبغايا والعاهراتِ وأقامتْ المناحةَ.. على فَخْذِ الثَّورِ السّماويِّ الأيمنِ فلاحِظْ دِقَّةَ النّصِّ في اختيارِ لفظ (المترهِّباتِ) لا (الراهبات)، لأنَّ المترهباتِ مزيّفاتٌ، إنَّهُنَّ بغايا بأزياءِ الرّاهباتِ من أجلِ أنْ يأتيَ الجمهورُ المغفَّلُ وراءَهُنَّ في تقليدٍ جديدٍ هو البُكاءُ على الثَّوْرِ، جاعلةً مِنْهُ بطلاً تاريخياً. فماذا يفعلُ جلجامشُ بالمقابلِ؟،.. لقد أَمَّنَ من جانبِهِ العنصرَ التاريخيَّ أيضاً: دَعَا جلجامشُ الصُنَّاعَ ـ صُنَّاعَ السِّلاحِ كُلَّهُم وأعْجَبَ الصُنَّاعُ مِنْ كِبْرِ قُرْنَيِّ الثَّورِ وثِخْنِهِمَا وكانَ وزنُ قوالِبِهِ المصبوبةِ ثلاثينَ مَنَّاً وغلافُ كلٍّ مِنْهُمَا بِثِخْنِ إصبعينِ وسِعَةُ كلٍّ مِنْهُمَا ستََّةَ كوراتٍ مِنَ السِمْنِ أَخَذَهَا جلجامشُ وعَلَّقَهَا في غُرفَةِ نومِهِ المَلَكيةِ وغَسَلَ البَطَلانِ أيديَهُمَا في الفُراتِ الطّاهِرِ وعانقا بعضَهُمَا سائرينِ في أسواقِ (دروبِ) أوروكَ ………… ………… وبعد عدَّةِ سطورٍ مخرومةٍ: عشتارُ لم تَجِدْ مَنْ يواسيهَا ويُفْرِحُ قلبَهَا غَسَلا أيديهُمَا بماءِ الفراتِ الطّاهرِ ليزيلا ما عَلَقَ بِهِمَا من أقذارِ الثَّورِ وفتنتِهِ. إذا كانتْ عشتارُ قد نَصَبَتْ مناحةً لجعلِ الثَّورِ بطلاً تاريخياً، فإنَّ جلجامشَ جَلَبَ الصُنَّاعَ ليعملوا له نموذجاً (ماكيتاً) لقرني الثَّورِ، ثم يضعُ هذا النّموذجَ في غرفتِهِ الملكيةِ. وهكذا يُودِعُ جلجامشُ في ذاكرةِ التاريخِ الأدلَّةَ الماديةَ على جريمةِ الثَّورِ لا مجرَّدِ الادعاءِ بأنَّهُ (قُتِلَ مظلوماً) كما تدَّعي عشتارُ. فالصُنَّاعُ أنفسُهُم عَجِبوا مِنْ ثِخْنِ قرنيهِ!.. تلك القرونُ التي هي رمزٌ لقوَّتِهِ التدميريةِ، لأنَّ حاملَهَا ثورٌ لا غيرَ. وهي القوَّةُ التدميريةُ التي ينطوي عليها المُتَصدِّي للقيادةِ وهو غيرُ كفء لها. فتلكَ رموزٌ أخرى داخليةٌ تعملُ بانسجامٍ تامٍّ مع بعضِهَا البعضِ داخل النصِّ. ومن هنا لا بدَّ للمتصدِّي من أنْ يُغَلِّفَ قرونَهُ المدمِّرةِ بطلاءٍ سميكٍ من الذهبِ بثِخْنِ إصبعينِ ليخفيَّ ما انطوَتْ عليه قرونُهُ من قوَّةٍ غاشمةٍ. ومن هنا تبدو الملحمةُ وكأنَّهَا لا تريدُ أن تُعْذِرَ الإنسانَ من أيَّةِ جهةٍ مُحتَمَلَةٍ، وتُثْبِتُ الخَطَأَ أو المغالطَةَ التي تقولُ إنَّ التاريخَ مزوَّرٌ وإنَّ الجماعةَ الإنسانيةَ لا تَقْدِرُ على التمييزِ بين الخطأِ والصّوابِ، ولا يمكنُهَا الانتفاعُ من التاريخِ المزوَّرِ.. إنَّها تقولُ ما خلاصتُهُ :( إنَّ الحُكْمَ بتزويرِ التاريخِ هو دليلٌ على عَدَمِ تزويرهِ!. فَمِنْ أينَ يَعْلَمُ القائلُ أنَّ التاريخَ مزوَّرٌ ما لم يكنْ لَهُ عِلْمٌ بما هو حقيقيٌّ مِنْهُ وما هو مزوَّرٌ؟). وبِكَلِمَةٍ أخرى تؤكِّدُ الملحمَةُ على هذه المَقولةِ: (إنَّ الحَقَّ بَيِّنٌ والباطلَ بَيِّنٌ وكلُّ امرئٍ اختارَ أَحَدَهُمَا فهو المسئولُ عن اختيارِهِ). ... القيصر $ | |
|
| |
{ القيصر }
عدد المساهمات : 311 النقاط : 517 الشُّهرة : 3 تاريخ التسجيل : 20/03/2011 العمر : 35 المكان : سوريا - حمص - مقيم في السعودية الجنس : المزاج : اعتباراً من الغد
| موضوع: رد: ملمحمة جلجامش البابلية السبت 25 يونيو 2011, 9:14 pm | |
| المقطع السابع عشر الرَمْزيَّةُ في شَخْصِيَّةِ أنْكِيْدُو أيلي: على. حبيب، طفل، صدر : دادو المفرد ات ايخالبو: يغطي، ينتشر. قال المترجم ومعناه هنا: (يضغطُ بقوَّةٍ). صَيري: قال: (معناهُ الظهرُ إلى جانب ما تقدّم!) يقصد (نابيس). أليسَ من الضروري أنْ يكونَ هناك رمزٌ آخرٌ مُقابلَ الثَّورِ السّماوي.. الثَّورِ الذي يمثِّلُ القيادةَ العمياءَ المعارِضَةَ لجلجامشَ الحكيمَ؟. لكنَّ الحكماءَ لا يفكِّرونَ (بِسَبَبٍ مِنْ حكمَتِهِم) في أنْ يَجبِروا الناسَ على متابعتِهِم ولذلك فَهُمْ يُريدونَ الأتباعَ الذينَ يَخْلِصُونَ للحقِّ والحكمةِ لا لَهُمْ خاصَّةً. ومن هنا فإنَّهُم لا يحتاجونَ إلى أحدٍ ليثني عليهِمْ مطلقاً… إنَّهُم يحتقرونَ المُدَّاحَ في داخلِ أنفسِهِم ويرغبونَ في أنْ (يَحِثُّوا في وجوهِ المَدَّاحينَ التُّرابَ). إنَّ مدحَهُم يَكْمِنُ في امتداحِ الفضيلةِ والحكمةِ، ولذلك فإنَّ ما يبدو مشكلةً لغيرِهِم لا يُعَدُّ مشكلةً بالنسبةِ لهُمْ. فالقاعدةُ العامَّةُ: (إنَّ الحُكمَاءَ غُربَاءٌ في مجتمَعِهِم)، وهُمْ أوَّلُ النّاسِ إدراكاً لهذه القاعدةِ. ولكنْ إذا جاءَتِ (الأقْدارُ) بأخٍ ناصِحٍ ومُتابعٍ للحكيمِ فسيكونُ هو حكيمٌ محظوظٌ جداً. إذنْ (فالمغتاظونَ) من جلجامشَ في مملكتِهِ كثيرونَ، وقد حَاولوا التّباكي أمامَ الأربابِ لتُخْلِقَ لَهُمْ وحشاً برِّياً يواجُهُ جلجامشَ القويَّ. وكانَ فَشَلُ محاولاتِهِم تلك هو الذي جَعَلَ (ربَّتَهُم) عشتارَ تأخذُ هذه المهمَّةِ على عاتِقِها حيثُ تمَّ خَلْقُ الثَّورِ السّماويِّ بفضلِ مساعيهَا.. إذ أليسَ المغتاظونَ مِنَ الحكمةِ هُم في النّهايةِ عبيدَ عشتارَ ويتوجَّبُ عليها دونَ سِواهَا الدّفاعُ عن مصالحِهِم؟!. ولكن ما الذي أنتجَتْهُ محاولاتُ (الرِّجالِ) المعارضِينَ لجلجامشَ؟ وكيف فَشلَتْ محاولاتُهُم؟ الواقعُ.. إنَّ مطلبَهُم قد تمَّ تنفيذٌهُ وقد تمَّ خَلْقُ وحشٍ بريٍّ بالفعلِ! ولكنَّ هذا الوحشَ الذي أُوكِلَتْ مُهمَّةُ تكوينِهِ إلى (أورورو) ينتهي به المُطافُ إلى أنْ يكونَ صديقاً حميماً لجلجامشَ وساعداً آخراً مُضافاً لساعديهِ القويتينِ، وليكونَ هو أَوْفَى الجميعِ له في النُصْحِ وفي القتالِ وفي الحِلِّ والترحالِ.. يتقدَّمُ أمامَهُ في المخاطِرِ ويفديهِ بنفسِهِ.. هكذا انقلَِبَ فجأةً الوحشُ البريُّ القادمُ من البَرِيَّةِ والمُهيَّأُ مُنْذُ أنْ خُلِقَ وإلى أنْ التقا به كلٌّ من الغانيةِ والرَّجُلِ الغريبِ ليقتُلَ جلجامشَ.. انقلَبَ هذا الوحشُ فجأةً إلى صديقٍ حميمٍ لجلجامشَ!. تلك واحدةٌ من الجوانبِ البديعةِ في الملحمةِ، والعميقةِ الغَورِ في الحكمةِ الإلهيةِ التي يَنْدِرُ وجودُهَا بِمْثْلِ هذا الانسجامِ في التفاصيلِ في أيِّ نوعٍ من أنواعِ الأدبِ. إنَّها حكمةٌ!! ولَيْتَ الشُرّاح أو الذين يعقدونَ المقارناتِ بين عالَمِ البداوةِ وعالَمِ التّحضُّرِ انتفعوا بها قبلَ الآخرين. إنَّ الملحمةَ في قصَّةِ أنكيدو تَطْرَحُ نظريةً للمعرفةِ لا علاقةَ لها بكلِّ ما نعرفُهُ من نظرياتٍ لها في الفلسفةِ… وتَطْرَحُ بجوارِهَا نظريةً للأخلاقِ مُنتَزَعَةٍ منها. فالحكمةُ في الملحمةِ تظهرُ وهي غيرُ مرتبطةٍ بالحضارةِ، والتوحُّشُ غيرُ مُلازمٍ للبريةِ خلافاً لما هو سائِدٌ عند أهلِ التنظيرِ وأهلِ الفِكْرِ. ومعنى ذلك أنَّ المعرفةَ قد تُستَخدَمُ للخيرِ مثلما تُستَخدَمُ للشرِّ، وأنَّ الذي يحدِّدُ استخدامَهَا ليس ذاتُ المعرفَةِ، بل ذاتَُ العارِفِ. ومن هنا تكونُ الأخلاقُ صورةً لانعكاسِ الذَّاتِ وليسَ لانعكاسِ المعرفةِ. وكلُّ ما يفعلُهُ العِلْمُ بالأشياءِ هو تخصيصُ المزيدِ من العواملِ والعناصرِ لخدمَةِ توجِّهِ الذَّات. ولكن ماذا لو كانت المعرفَةُ والعِلْمُ المُستَحَصُل للذَّاتِ هما المُشَوَّهانِ من الأصلِ ولا يطابقانِ واقعَ الأشياءِ؟. تُجيبُ الملحمةُ على ذلك الإشكالِ الكبيرِ بإجابةٍ شافيةٍ خلاصتُهَا : (إنَّ الذَّاتَ قادرةٌ على كشفِ صِحَّةِ المعلوماتِ عاجلاً أو آجلاً حتّى لو تمَّ شحنُهَا بعِلْمٍ لا يطابقُ الواقعَ لمدَّةٍ طويلةٍ. وكأنَّ الذَّاتَ مستنيرةٌ أصلاً بذاتِهَا، وإنَّ العِلْمَ المُكتَسَبَ ما هو إلاَّ طريقٌ أو ظَرْفٌ لاستخدامِ هذه الاستنارةِ الذاتيةِ. ومن هنا يصبحُ الموقفُ الأخلاقيُّ موقفاً ذاتياً لا يبرِّرُهُ الجَهْلُ بالأشياءِ، مثلما لا يبرِّرُهُ العِلْمُ بها، فهو مُسْتَقِلٌّ من الجهتين ولكنَّهُ ينتفعُ من هذين العنصرين المُتَّحدينِ لتحقيقِ "مُرادِ" الذَّاتِ في كلِّ موقفٍ على حِدَةٍ). فالتوحُّشُ والتحضُّرُ في نَظَرِ الملحمةِ هما صفتانِ خارجيتانِ لا تَنُمَّان عن حقيقةِ الذَّاتِ ولا تَمِتَان لجوهرِهَا بصلةٍ تُذْكَرُ. فالذَّاتُ المتوحِشةُ قد تكونُ موجودةً في قَلْبِ الحضَارةِ (داخلِ أسوارِ أوروك)، والذَّاتُ المتحضِّرةُ قد تكونُ في البريةِ حيثُ الوحوشِ من أسودٍ وفهودٍ ونمورٍ. وهذا هو جوهرُهَا ولا علاقةَ له بمظهرِهَا الخارجيِّ الذي هو بخلافِ ذلك تماماً. وسوفَ تظهرُ أهميَّةُ هذه الفكرةِ وارتباطِهَا بالرَّمزِ أو مجموعةِ الرّموزِ الأخرى في العنوانِ اللاحقِ (فشلُ المحاولاتِ لتدنيسِ أنكيدو). لقد ظَهَرَ من قَلْبِ الحضارةِ (الثَّورُ) الذي قَتَلَ بخوارِهِ المئاتِ، بينما ظَهَرَ من البرية (أنكيدو) الشّبيهُ بجلجامشَ في الحكمةِ. ولمْ تكتفِ الملحمةُ عندَ حدودِ التناقضِ بينَ التوحّشِ والتحضّرِ الخارجيِّ مع حقيقةِ الذَّاتِ، بل أوحَتْ أو صرَّحَتْ بالمطابقةِ بين المظهرِ والجوهرِ أيضاً لِمَنْ يَنْظُرُ إلى السلوكِ بعينِ البصيرةِ كمجموعٍ لا كأجزاءٍ منفصلةٍ عن بعضِهَا البعضِ. فأنكيدو يَكْسو جسمَهُ الشَّعْرُ ويرتدي سموقان ويأكلُ العُشَبَ.. وكلُّ هذا مظهرٌ من مظاهِرِ التوحُّشِ. ولكنْ انظُرْ إلى سلوكِهِ الخارجيِّ الآخرِ، فهو يتدافعُ مع الوحوشِ على الماءِ ويحميْهَا من الصيَّادِ إذ مَلأ أوجارَهُ وقَطَعَ شِباكَهُ التي نَصَبَها.. إذنْ كانَ أنكيدو في البريةَِ متحضِّراً لأنَّهُ يُدافعُ عن الحيواناتِ، وكانَ متحضِّراً في سلوكِهِ الخارجيِّ أيضاً ولم يظهَرْ عليه التوحُّشُ الخارجيُّ إلاَّ بعدَ إن اتَّصلَ به أهلُ المدينةِ وملئوا رأسَهُ بمعلوماتٍ خاطئةٍ جعلَتْهُ يسمحُ للصيَّادِ بِقَتْلِ حيواناتِ البريةِ!! تُرَى هلْ عَجَزَتْ عقولُ المحلِّلينَ الغربيينَ عن هذه الفقرةِ وَهُم يرفعونَ شعارَ (الرُّفقِ بالحيوانِ)!. أمْ كانَ كلُّ همِّهِم إثباتَ وحشيةِ العراقيِّ القديمِ من خلالِ سطرٍ واحدٍ زُوِّرَتْ ترجمتُهُ لخدمةِ هذا الإثباتِ؟ السَّطرُ الذي يقولُ إنَّ أنكيدو احتضَنَ البغيَّ التي أرسلوها لإغرائِهِ بالذِّهابِ إلى أوروكَ (ضاغطاً على ظَهْرِهَا). لقد تحوَّلَتْ ترجمةُ هذا السّطرِ المتكرِّرِ إلى عبارةِ "اعتلاهَا من الظَّهْرِ" ثُمَّ خصَّصوا دراساتِهِم لهذا السّطرِ وحدِهِ دونَ سِواهُ ليُبرهنوا على أنَّ العراقيَّ القديمَ كانَ يمارسُ الجُمَاعَ كالبهائمِ!. ذلكَ لأنَّنا وبغضِّ النَظَرِ عن هذا التزويرِ، ومعَ افتراضِ صِحَّةِ الترجمةِ، نُقَرِّرُ أنَّ الفكرةَ النّهائيةَ لا تؤكِّدُ هذه النظريةَ، بل تؤكِّدُ نقيضِها. فالكاتبُ حاولَ الإمعانَ في تصويرِ توحُّشٍ ظاهريٍّ لأنكيدو خلالَ سلوكِهِ في البريةِ لِيُظهرَ التناقضَ بينَ هذا المظهرِ مع تحضُّرِ ذاتِهِ المحبَّةِ للحكمةِ. وفي هذه الحالةِ يكونُ إتيانُهُ المرأةَ من ظهرِهَا هو وصْفٌ لرجلٍ برِّيٍّ متوحِشٍ في سلوكِهِ الخارجيِّ لا وصفاً للحياةِ المدنيةِ في وادي الرّافدينِ. إذ المعلومُ في كلِّ الأحوالِ أنَّ أنكيدو هو (رمزٌ)، إذ لا وجودَ لإنسانٍ يعيشُ مع الأسودِ والفهودِ ويكسو جسمَهُ الشَّعْرُ فعلاً!. وهل تَحْسِبُ أنَّ هذه القضيّةَ من مُعضلاتِ المسائلِ على عقولِ الغربيين أم أنَّ الذي يُملي عليهم كلَّ ذلك هو ما تذْكِرُهُ الملحمةُ من توحُّشِ الذَّاتِ أحياناً بالرَّغمِ من تحضُّرِ المظهرِ؟. فلنحاولَ الآنَ الكَشْفَ عن مَدَى صِحَّةِ هذه الترجمةِ: كان (أنكيدو) في البريةِ كما رَأيْنا من قبل، وقد خَلَقَتْهُ (أرورو) لمجابهةِ جلجامشَ، وإذنْ كانَ لا بدَّ من استقدامِهِ إلى المدينةِ. ولذلك عَمَدَ الصيَّادُ ووَلَدُهُ إلى رَسْمِ خُطَّةٍ (سنلاحظُ رموزَهَا فيما بعد) تقضي باستخدامِ إحدى البغايا للإغراءِ به ومن ثُمَّ جلبِهِ إلى أوروكَ. قامَ الصيَّادُ بتحريضِ البغيِّ على هذا الإغراءِ، وتَمَّ وصفُ ما حدث بعد ذلك من ممارسةٍ للجماع مَعَهَا. وقد وَرَدَ السّطرُ موضوعُ البحثِ في هذا الموضعِ. هذه هي ترجمةُ الأحمدِ للسطورِ: 7. هو ذا يا شمخةُ فاكشفي عن عورَتِكِ 10. اجعليهِ يصعَدُ على الظَّهْرِ ويتمتَّعُ 11. فعندما يَراكِ سوفَ يقترِبُ مِنْكِ 15. وسوفَ يضْغِطُ بقوَّةٍ على ظهْرِكِ 17. لم تَخُفْ عندما مارسَ الحُبَّ مَعَهَا على الظَّهْرِ 18. خَلَعَتْ ملابسَهَا واستلقى عليها 20. وضَغَطَ بصدرِهِ على ظهرِهَا هذه هي السطورُ التي تضمَّنِتْ عباراتِ (على الظهرِ) المتكرِّرةِ التي لم تَرِدْ في ترجمة طه باقر مطلقاً، لأنَّهُ حاولَ ترجمةَ المعنى العامِّ دونَ المعنى الحرفي: 7. هذا هو أيَّتُها البغيُّ فاكشفي عن نهديكِ 11. فإنَّهُ متى رآكِ انجذبَ نحوكِ 15. … 17. لم تحجُمْ بل راودَتْهُ وبعثتْ فيه الشّوقَ 18. نَضَتْ ثيابَهَا فَوَقَعَ عليها 20. فانجذبَ لها وتعلَّقَ بها فما هو النّص الأصلي في السّطر(10)؟.. إنه هكذا: 10. تاشخوطي ليقي أي أنابيس سو فإذا أخَذَْنا المفرداتِ كما هي في التّرجمةِ لم ينتجْ المعنى المذكورُ في السّطر (مارسَ مَعَها الحبَّ على الظهرِ). فهذه أخي القارئ معاني المفرداتِ: تاشخوطي: تا: ضمير المخاطب شاخاطو: يرتقي، يصعد الياء: ضمير المؤنث الغائب (الشخص الثالث المفرد) ليقي أي: أمسك، أخذ، استلم. (هنا فعلُ أمرٍ) نابيس: ظهر سو: للفاعلية (انظر هامش ترجمة سامي الأحمد/70) والذي ينتجُ من تركيبِ هذه المفرداتِ على هذا النّحوِ هو أنَّ البغيَّ خُوطِبَت بأمرٍ مفادُهُ أنْ تجعلَهُ يرتقي أو يصعَدُ أو يعلو عليها ويتمسَّكُ بها، وأنَّ موضِعَ التَمسُّكِ هو بالظهر. ألا تلاحظُ أخي القارئُ أنَّ هذه هي الصورةُ الطبيعيةُ المعتادةُ للجُماعِ؟.. لأنَّ الرّجُلَ إذا علا المرأةَ (من قبلِهَا) واحتضنهَا فإنَّ التّمسُّكَ سيكونُ من ظهرِهَا لأنَّ يداه ستكونان خَلْفَ المرأةِ، وهو عكسُ ما قالوه تماماً. أمَّا المترجِمُ فقد قالَ: (اجعليه يصعَدُ على الظهرِ ويتمتَّعُ) فلاحِظْ كَمْ مفردةٍ أضافَ المترجِمُ من عندِهِ لا وجودَ لها في النصِّ؟ وكَمْ مفردةٍ في النصِّ خالفَ ترجمتَهَا التي أثْبَتَهَا في الهامشِ. لقد أضافَ ثلاثُ مفرداتٍ في هذه الجملةِ لا وجودَ لها في النصِّ وهي: اجعليه: غيرُ موجودةٍ في النصِّ. يتمتع: غيرُ موجودةٍ في النصِّ. على: لا وجودَ لها في النصِّ. أمّا المفرداتُ التي أهملَ معانيَّها أو غيَّرَها فهي: سو: للفاعلية، وأمسك وأصلُها (ليقي) أبدلها بـ (يضغط)، والمقطعُ (أي) الذي حَوَّلَ الصيغةَ إلى أمرٍ. وإذنْ فالترجمةُ الصحيحةُ لهذا السطر، إذا صحَّتْ ترجمةُ المفرداتِ هي (ليعلوكِ وليمسِكَ بظهركِ)، وليست يرتقي على الظهرِ كما يفعلُ الحصانُ على حدِّ تعليقِهِ على الموضوعِ. السطر(15): وَرَدَتْ نفسُ العبارةِ في هذا السطر، وهو في الأصل: 15. دادوشو أي خايبو بو أيلي صَير كي ... القيصر $ | |
|
| |
{ القيصر }
عدد المساهمات : 311 النقاط : 517 الشُّهرة : 3 تاريخ التسجيل : 20/03/2011 العمر : 35 المكان : سوريا - حمص - مقيم في السعودية الجنس : المزاج : اعتباراً من الغد
| موضوع: رد: ملمحمة جلجامش البابلية السبت 25 يونيو 2011, 9:15 pm | |
| المقطع الثامن عشر إنَّ من جُملةِ الاستعمالاتِ الخاطئةِ والشائعةِ في العربيةِ هو استعمالُ حرفِ الجر (إلى) بمعنى (على). وقد فَنَّدْنَا هذا الشرحُ للمفسِّرينَ في آياتٍ قرآنيةٍ كقوله تعالى: (دعانا إلى جنبه)، إذ قالوا: (المقصودُ "على جنبهً). ذلك لأنَّ (على) تُفيدُ الاستعلاءَ من شيءٍ على شيءٍ مُنفصلٍ عنه فقط. ولو سارَ القرآنُ على مقترحاتِهِم لَفَسَدَتِ اللّغةُ. ومنه قولُهُ تعالى: (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ ) (يّـس: من الآية8)، وقولُهُ تعالى: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) (الصافات:103). إذ زعموا فيها جميعاً أنَّها بمعنى (على). وكلُّ تلك المسمَّيات هي أجزاءٌ تنفصلُ عن الجسمِ ولا تُسْتَخْدَمُ فيها (على)، بل (إلى) وحسب. ولمّا كانت (صيري) الآشوريةُ تأتي بمعنى (جانبٍ) كما في(ل16 ـ س6) حينما قال أنكيدو لجلجامش: (وأنتَ مستقِرٌّ(إلى) جانبِكَ" حيثُ استعملَ لفظَِ (أيلي)، فإنَّ إهمالَ أهلِ اللغةِ أصلاً لمثْلِ هذا التمييزِ جعل المترجمينَ إلى العربيةِ يترجمونَهَا (وأنتَ مستقرٌّ على جانبِكَ)، وهو استعمالٌ خاطئٌ جداً. ومن هنا نعلمُ أنَّ ترجمةَ (أيلي) الآشورية (البابلية القديمة) هي (إلى) العربية، وليست (على) وهي أقربُ إليها صوتياً كما ترى. إنَّ لفظَ (إلى) معنيٌّ بتحديدِ الاتجاهِ، وإذنْ فالعبارةُ تفيدُ الحالَ، ومعنى البيتِ واضحٌ جداً فهو يطلبُ إليها قائلاً: (لينشرَ حبَّهُ وأنتِ إلى ظهرِكِ) فلاحِظْ ضميرَ التأنيثِ الذي ارتبطَ بالظهرِ (صيري ـ كي)، وهو مشابهٌ تماماً للضميرِ العربيِّ كما لو قُلْتَ لامرأةٍ: (ظَهْرُكِ) ـ (ظَهْرُ ـ كي). وإذنْ لو كانَ الوضعُ المزعومُ هو المتعيَّنَ من العبارةِ لاختلفَ موقعُ الضمائرِ أو لقالَ إلى (بطنِكِ)، إذ هو المقصودُ على زعمِهِم. ومع اختلافِ معاني المفرداتِ يمكنُ صياغةُ الترجمةِ إلى: (لِيُغطِّي صدرَكِ وأنتِ إلى ظَهْرِكِ) وحسب معاني (دادو) بين صدرٍ وحبٍّ. أمّا السّطرُ المرقَّمُ (17) فإنَّ النصَّ الأصليَّ فيه هو: أوول أيش خواوت إيلتي قينابيس سُو وفكرتُهُ مشابهةٌ للبيتِ العاشرِ ونهايتُهُ كنهايتِهِ تماماً. وكان (شبايزر) قد ترجمَهُ إلى: (فلَمْ تخجلْ بل رحَّبَتْ بحرارَتِهِ الملتهِبَةِ) وبعضُهُم أصرَّ على ترجمتِهِ إلى (مارسَ الحبَّ مَعَهَا على الظهرِ!!) بالرّغمِ من عدمِ وجودِ (مارسَ) و(حبٍّ) و(على) كمفرداتٍ في الأصلِ، وبالرغمِ من تناقضِهَا مع السّياق كما سيأتي. السّطر(20) النصُّ الأصليُّ هو: دادو شو إيخ بوبو أيلي صيري شا وفكرتُهُ في النّهايةِ مشابهةٌ لفكرةِ البيتِ الخامسِ عشرَ مع اتِّفاقِ نهايتيهِمَا، باستثناءِ الضّميرِ، وهو أمرٌ هامٌّ جداً هنا. ذلك لأنَّهُ حينما وجَّهَ الكلامَ لها في البدءِ لِتتركَهُ يتمسَّكُ بظهرِهَا وصَلَ إلى المرحلةِ اللاحقةِ، إذ أَمَرَهَا إنْ تَمْسِكَ هي بظهرِهِ حينما يستلقي عليها. فلاحِظْ أيُّها القارئُ الكريمُ كيف اتَّفقَ البيتانِ في كلِّ الألفاظِ باستثناءِ الضّمائرِ حيثُ انتهى الأوّلُ بالمقطعِ (كي) ضميرُ المخاطَبَةِ المؤنَّثَةِ وانتهى هذا البيتُ بالمقطع (شا) ضميرُ المذكَّرِ الثّالثِ الغائبِ. وهكذا انتظمتْ السّطورُ في وصفِ مراحلِ الإغراءِ التي أَمَرَهَا بها الصيَّادُ. فالأوّلُ (..وهو يمسكُ بظهرِكِ) .. والأخير (ولتمسكي بظهره)، وفي الأبياتِ الوسطى حدَّدَ حالَ البغيّ: (وأنتِ إلى ظهرِكِ). فإذا جاء البيتُ اللاحقُ (18) والذي تُرْجِمَ إلى: (خَلَعَتْ ثيابَهَا واستلْقَى عليها) كان هذا البيتُ تحديداً هو أوّلَ بيتٍ يتحدّثُ عن وقوعِ الممارسة بصيغةِ الخبرِ. وإذن فالبيتُ السّابقُ عليه لا يمكنُ أن يكونَ بمعنى (مارسَ الحبَّ مَعَهَا).. بأيَّةِ صورةٍ، لأنَّهُ قبلَ خَلْعِ الملابسِ، إذ تفيدُ الممارسةُ وقوعَ الجُماعِ.. ولكنَّ البعضَ كانوا كما يظهرُ سعداءَ بترجمتِهِم لأنَّهُم أرادوها أن تتَّفِقَ بأيَّةِ صورةٍ مع آراءِ الغربيينَ، إذ قالَ سعيدُ الأحمد: (أُخَِذَتْ عباراتُ ملحمةِ جلجامشَ من قبلِ الكثيرِ من الباحثينَ كدليلٍ على كونِ العراقيِّ القديمِ قد مارسَ الجُماعَ بنفسِ الطّريقةِ التي تمارسُهَا بعضُ الحيواناتِ كالحمارِ والحصانِ والقطِّ.. الخ). انتهى النصُّ/73/ملحمة جلجامش ـ ترجمة سامي سعيد الأحمد. ولم يعلِّقْ سامي سعيد بشيءٍ على هذه النّتائجِ، بل خالفَ النصَّ الأصليَّ وعائديّةَ الضّمائرِ ليجعلَ السّطورَ تؤكِّدُ مزاعمَ هؤلاءِ الباحثينَ وكأنّّهُ يؤيّدُهُم بما ذهبوا إليه.. فيا لها من مفخرةٍ لسعيدٍ العراقي!!. إذنْ لم يكنْ أنكيدو يمارسُ الجماعَ كالبهائمِ، بل على العكسِ من ذلك أرادَ الكاتبُ إبرازَ تحضُّرِهِ وهو في البريةِ. فإنَّ التوحُّشَ الظّاهريَّ بدأ معه حينما بدأ بالاتصالِ بالمدينةِ وأهلِهَا.. كما سنراه قريباً. تؤكِّدُ الملحمةُ إذنْ على أنّ أسلوبَ العيشِ والحُرفةِ لا تؤثِّرُ على القراراتِ الأساسيةِ للإنسانِ، فإنَّ آثارَ العملِ والحُرفةِ وأساليبَ العيشِ نجدُهَا في السّلوكِ الظاهريِّ مثلِ طريقةِ الأكلِ ولبْسِ الثّيابِ وأسلوبِ الكلامِ وطرائِقِهِ… إلى أمثالِ ذلك. ولكنَّهَا معدومةُ الأثرِ باتجاهِ القراراتِ الدّاخليةِ للإنسانِ المرتبطةِ بالعدلِ والجمالِ والظُلْمِ وأمثالِهَا، فإنّ تلك القراراتِ كَرَوْعَةِ الجّمال وقُبْحِ الظُلْمِ وضرورةِ العدلِ هي مفاهيمٌ موجودةٌ في ضميرِ الإنسانِ مهما كانت طريقتُهُ في العيشِ. إنَّ هذه النّظريةَ الأخلاقيةَ هامَّةٌ جداً، وهي بالتأكيدِ أَصَحُّ بكثيرٍ من تلك النّظرياتِ الحديثةِ التي ربطَتِ الأخلاقَ بالمعلوماتِ أو (المعرفةِ)!. فالأخلاقُ إنّما تنتفعُ من المعلوماتِ سَلْبَاً وإيجاباً. ويكمنُ في هذه النّظريةِ سِرٌّ آخرٌ وهو أنَّ (العقلَ) ليس متحرِّراً من قيودِ الذَّاتِ، وبالتالي لا يُصلِحُ لأنْ يكونَ حاكماً على الأشياءِ إلاَّ بشرطٍ يَعسِرُ تحقيقُهُ. وهذا الشّرطُ هو (سلامةُ الذَّاتِ). ولمّا كانت سلامةُ الذَّاتِ أمراً يستحيلُ تقديرُهُ إلاَّ من الله، فإنَّ الملحمةَ ترى أنَّ المَلِكَ المعيَّنَ من اللهِ هو المَلِكُ الفعليُّ، وهو الوحيدُ الذي تَجِبُ طاعتُهُ. ولكنْ هل كلُّ من يدَّعي هذا التعيينَ يُصَدَّقُ ويُطاعُ ؟.. كلاَّ.. بالطبعِ.. فالمدَّعونَ كثيرونَ وأغْلَبُ الملوكِ ادَّعو أنَّ مُلكَهُم بأمرٍ إلهيٍّ. فَمَنْ هو الذي يُصدَّقُ ويُطاعُ من بينِِهِم؟.. إنّه القادرُ على (أنْ يرى كلَّ شيءٍ).. إنَّهُ القادرُ على تسخيرِ قوى الطّبيعةِ لصالحِ الإنسانِ كما فَعَلَ جلجامشُ. المُحَاولاتُ الفَاشِلَةُ لِتَدْنيسِ أنكيدو تؤكُِّدُ الملحمةُ أنَّ الدَنَسَ الظاهريَّ الناتجَّ عن (غسيلِ الدماغِ) أو التضليلِ هو مظهرٌ خارجيٌ زائلٌ ولا يمثِّلُ جوهرَ أو حقيقةَ الإنسانِ، وأنَّ الذَّاتَ الطاهرةَ سوف تكتشِفُ الحقيقةَ حتماً في الوقتِ المناسبِ. وتبدو لنا الملحمةُ وكأنَّها تحاولُ صياغةَ عِلْمِ النفسِ والاجتماعِ وفْقَ صيغٍ قانونيةٍ. وهي محاولاتٌ لا زالتْ تُعَدُّ في طورِ التكوينِ في عالمِنَا المعاصرِ. ولكنِّي أعتقدُ أنَّ الملحمةَ نَجَحَتْ في ذلك حيثُ فَشلَ التنظيرُ الحديثُ. ونلاحِظُ مِثْلَ هذه المعادلاتِ التي تطرحُهَا في جوهرِ نظرياتِ الدِّين الأصليةِ غيرِ المشوَّهَةِ. فالدنسُ الخارجيُّ المتمثِّلُ بالذنوبِ والخطايا يُغْفَرُ بأجمَعِهِ معَ سلامةِ الذَّاتِ، بل تُبَدَّلُ السيئاتُ بمثلِهَا من الحَسَناتِ. بينما لا تنفعُ جميعُ الأعمالِ الصالحةِ الظاهريةِ مع سوءِ الذَّاتِ مَهْمَا بلغَتْ، بل تُحَوَّلُ كلُّهَا إلى آثامٍ خلالَ عمليةِ الحسابِ. ومثلُ هذه المعادلاتِ لا علاقةَ لها طبعاً بأحْكامِنَا الجزافيةِ حولَ صلاحِ أو عَدَمِ صلاحِ الأشخاصِ، ولا تُعْتَبَرُ مثلُ هذه الحساباتِ مجرَّدَ قواعدٍ لا معنى لها، بل المقصودُ أنَّ النتائجَ الواقعيةَ تُطابِقُ هذه الحساباتِ فعلاً. فثمَّةُ اعتقاداتٌ خاطئةٌ حولَ صلاحِ بعضِ الأعمالِ بينما هي أعمالٌ فاسدةٌ ولكنَّ أصحابها (يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (الكهف: من الآية104)، ويقولون: (إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) (البقرة: من الآية11). والعكسُ صحيحٌ أيضاً، فثمَّةُ أشخاصٌ في نَظَرِ عمومِ الناسِ هُم من جُملةِ الأشرارِ: (وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ) (صّ:62) بينما هُم من الأخيارِ. وبالطبعِ يظهرُ مثلُ هذا السؤالِ بعدَ ظهورِ نتائجِ الحساباتِ الأوليةِ. لقد جَرَتْ عِدَّةُ محاولاتٍ لتدنيسِ أنكيدو قَبْلَ الإتيانِ به من البريةِ إلى أوروكَ، كانتْ الغايةُ منها حَمْلَهُ على قَتْلِ جلجامشَ بعد تشويهِ صورةِ جلجامشَ في نفسِهِ. وهي أربعُ محاولاتٍ اتَّخَذَتْ أسلوبَ التدرُّجِ النفسيِّ: الأولى: فِكرةُ إغراءِهِ بالبغي. الثانية: إعطاءُهُ صورةً عن العاصمَةِ والحضارَةِ التي فيها وخاصَّةً المُعْبَدِ مقابلَ ما فَعَلَهُ جلجامشُ لتدنيسِ المُعْبدِ. الثالثة: إغراءُهُ بِلَبْسِ الملابسِ المَدَنيَّةِ وأَكْلِ طعامِ أهْلِ المُدِنِ والاتِّصَالِ بالرعاة. فاجتَمَعَ به الرّعاةُ لأوَّلِ مرَّةٍ بعدما كانوا يَفِرُّونَ منه مذعورينَ، ثُّمَّ قامَ ولأوَّلِ مرَّةٍ في حياتِهِ بقَتْلِ حيواناتِ البريةِ التي كانتْ قبلَ قليلٍ هي أصدقاءَهُ. فأَخَذَ الرّعاةُ والصيَّادونَ راحتَهُم طِوالَ الليالي اللاحقةِ، واصطادوا ما يرغبونَ فيه من وحوشِ البريةِ. الرابعة: تنظيمُ لقاءٍ (عفويٍّ) قُبَيلَ الوصولِ إلى العاصمةِ تَمَّ التخطيطُ له ببراعةٍ حيثُ يُقَابلُهُ (رجلٌ) يَشكوهُ من جلجامشَ. وهكذا حَصَلَ التدرُّجُ في تدنيسِ أنكيدو (الحُرِّ الطاهرِ) لِيفقِدَ بالتدريجِ حرِّيتَهُ ثُمَّ يفقدَ براءتِهُ ثُمَّ يفقدَ وفاءَهُ تمهيداً لفقدانِ وعيِهِ في اتّخاذِ جلجامش عدُّواً له من مجرَّدِ السماعِ ومن غيرِ معرفةٍ سابقةٍ. لقد شَدَّدَ هذا الرجلُ (المجهولُ) في شكواه على المسألةِ الأخلاقيةِ، وتحديداً على موضوعِ (الحرِّيةِ) وكأنَّهُ يَضرِبُ على أكثرِ الأوتارِ حسَّاً في قلبِ أنكيدو. فَمَنْ هو هذا الرجلُ ومَنْ جاءَ به؟ إنَّنا لا نعلمُ عنه شيئاً لأنَّ بدايةَ العمودِ مكسورةٌ من نحو خمسةِ أبياتٍ. بَيدَ أنَّ كلَّ قارئٍ بإمكانِهِ ملاحظةَ التخطيطِ المسبقِ لهذه الشكوى الكيديةِ ضدَّ جلجامشَ. إذ من المعلوم أنَّ رجلاً حكيماً وعالِمَاً مِثْلَ جلجامش يثيرُ في بعضِ النفوسِ مكامنَ الحَسَدِ والغيرةِ.. فكيف إذا اجتمعَ كلُّ ذلك مع القوَّةِ البدنيةِ والمُلْكِ؟. ولقد كانَ هذا التخطيطُ ظاهراً من بقايا العمودِ الرابعِ: لقد سُرَّ أنكيدو وأَقَامَ الأفراحَ ولمَّا إنْ رَفَعَ عينيهِ رأى رجُلاً فقالَ للبغيِّ آتيني بالرجُلِ يا بغيُّ فَعَلامَ جَاءَ هنا إذنْ.. فلسنا نحن الذين نسألُ : (ما جاءَ بهذا الرجلِ؟).. أنكيدو نفسُهُ هو الذي يسألُ ذلك، فلا بدَّ إذن أن يكون مجيءُ هذا الرجلِ في وضعٍ غريبٍ وشاذٍّ للموجودينَ في الاحتفالِ، وهكذا قال انكيدو: العمود الرابع: دَعيني أعرفُ اسمَهُ نادتْ البغيُّ على الرجُلِ فجاءَ إليهِ ورآهُ.. وقال له أنكيدو عَلامَ أنتَ مُهتمٌ أيها الرجل وعلام عانيتَ هذا السفرَ الشاقِّ فَفَتَحَ الرجلُ فاهُ وقال لأنكيدو: لقد اقتُحِمَ بيتُ الاجتماعِ الذي خُصِّصَ لتقديرِ المصائرِ وللأعراسِ لقد أَحَلَّ في المدينةِ العارَ والدنسِ وَفَرَضَ على أهلِهَا المُنكراتِ وأعمالَ السُخْرةِ ليختارَ على صوتِ الطبلِ العروسَ التي يشتهيها يخصِّصونَ الطبلَ ليختارَ العرائسَ قبلَ أزواجِهِنَّ فيكونُ هو العريسَ الأوّلَ! ولمَّا فاهَ هذا الرجلُ بهذا القولِ امتقعَ وجهُ أنكيدو العمود الخامس: سارَ أنكيدو إلى الأمامِ… وخَلفَهُ البغيُّ ولمَّا إنْ دخَلَ أوروكَ إذنْ.. فقد كانَ اللقاءُ في الطريقِ قبل الوصولِ إلى أوروكَ، بل كانَ بعيداً عنها بمسافةٍ يمكنُ اعتبارُ قطعِهَا (سفراً شاقاً) حَسَبَ تعبيره. وهذا هامٌّ جداً لأنَّ التحريضَ على جلجامشَ يستدعي شحنَُهُ بالغيظِ عليه قبلَ الوصولِ، إذ من المُحتملِ إذا دخلَ أنكيدو وتعرَّفَ على جلجامشَ بالوجهِ الصحيحِ أحبَّهُ كما أحبَّهُ الناسُ وباءتْ الخطَّةُ من ثمَّ بالفشل. فلا بدَّ إذن أنْ يدخُلَ أنكيدو المدينةَ وهو يريدُ القتالَ لا كشفَ حقيقةِ الحالِ!!. أن هذا الترتيبَ يؤكِّدُ لنا مصدرَ التحريضِ وهم (جماعةُ الأبطالِ المغتاظينَ) في العاصمةِ الذين سنلاحِظُ ما فعلوه في العمود الثاني من أوّلِ الملحمةِ الذي فاتَ الشُرّاحَ أدراكُ مغزاه فظنُّوا أنَّ النصَّ يثني على جلجامشَ ويمتدحُهُ ويُعلي قدَرَهُ ثُمَّ يعودُ ليصفَهُ بالأوصافِ المُشينةِ!. بينما واقعُ الحالِ أنَّ النصَّ مستمرٌّ في الثناءِ على جلجامشَ تارَّةً بصورةٍ مباشرةٍ، وتارَّةً من خلالِ أفعالِ أعدائِهِ (المغتاظين) ـ عبيدِ عشتارَ وأتباعِ الثَّورِ. فهم أنفسُهُم خطَّطوا لاستقدامِ أنكيدو من البريةِ عن طريقِ البغيِّ التي ما فتِأَتْ تؤكِّدُ خلالَ (ممارساتِ الحبِّ) على ضرورةِ مقاتلةِ جلجامشَ وتخليصِ الناسِ من شرورِهِ. فما الذي تريدُ الملحمةُ إبرازَهُ هنا؟.. إنّها تريدُ أن توضِّحَ جانباً من مغالطاتِ خصومِ جلجامشَ، بل وحمقِهِم المُشينِ. ذلك لأنَّهُم يقومونَ في الواقعِ بعَمَلَيْنِ متضادَّينِ تماماً، وتكونُ المحصِّلةُ الطبيعيةُ لذلك مساويةً للصفرِ. فَهُمْ من حيثُ يحاولونَ تدنيسَ أنكيدو وتحريضَهُ على جلجامشَ، فإنَّهُم يقومونَ من جهةٍ أخرى بتنميةِ عناصرِ الفضيلةِ في نفسِهِ بإثارةِ الغيرةِ على الحقِّ وعلى (الحرِّيةِ) وعلى (طهارةِ المعابدِ)!. وهي أشياءٌ أكَّدتْ عليها البغيُّ وهي تمارسُ معه الجُماعَ قبل اللقاءِ بالرجُلِ المُشتكي. ومعنى ذلك أنَّ الشرَّ لا طريقَ له في النهايةِ ألاَّ استعمالَ مبرَّراتِ الخيرِ، وليس له من طريقٍ ألاَّ الإذعانَ للخيرِ، فكأنَّهُ يعملُ ويَكِدُّ من غيرِ ناتجٍ سوى ما يرجعُ في النهايةِ إلى الخيرِ. ولكن قد يعترضُ معترضٌ بالقول: (كيف يحصلُ ذلك؟ فلو بَلَغَ الحُمْقُ بأنكيدو مَبْلِغَهُ بسببِ التحريضِ وقتلِ جلجامشَ .. أليسَ هذا من الشرِّ؟) الجوابُ على ذلك: إنَّ الملحمةَ تتحدَّثُ عن معادلةٍ خافيةٍ عن أكثرِ الناسِ.. إنَّها تتحدَّثُ عن النتائجِ غيرِ المنظورةِ والتي تنعكسُ على سلوكِ الأفرادِ. فلو فَعَلَ أنكيدو ما طَلَبَهُ منه الأشرارُ فأنَّهُ يفعلُ ذلك لأنَّهُ يحسِبُهُ من عملِ الخيرِ!. وإذنْ.. فسوف يكونُ مشحوناً بالغيظِ على الشرِّ بنفسِ القَدَرِ، وبعد اكتشافِهِ الأمرَ كنوعٍ إنسانيٍّ لا مجرَّدَ فَرْدٍ واحدٍ فقط، فسوف يخطِّطُ للانتقامِ وغَسْلِ العارِ الذي وقعَ فيه. والناتجُ دوماً هو عينُ الناتجِ.ً وإذنْ.. فالملحمةُ تقولُ إنَّ الحركةَ الاجتماعيةَ متطوِّرَةٌ نحوَ الخيرِ، وإنَّ ظهورَ الخيرِ واضمحلالَ الشرِّ هو حتميةٌ وجوديةٌ وتاريخيةٌ، وكأنَّ التوازنَ الاجتماعيَّ هو الوجهُ الآخرُ للتوازنِ الطبيعيِّ. وقد تقولُ: (فكيف يبقى الشرُّ إذن؟ ولماذا لا يَفْنَى إذا كانتْ نتائجُهُ دوماً لصالحِ الخيرِ؟ ... القيصر $ | |
|
| |
{ القيصر }
عدد المساهمات : 311 النقاط : 517 الشُّهرة : 3 تاريخ التسجيل : 20/03/2011 العمر : 35 المكان : سوريا - حمص - مقيم في السعودية الجنس : المزاج : اعتباراً من الغد
| موضوع: رد: ملمحمة جلجامش البابلية السبت 25 يونيو 2011, 9:17 pm | |
| المقطع التاسع عشر الإجابةُ على ذلك تَكْمِنُ في أنَّ الموضوعَ ليس فناءَ أحدِهِمَا أو عَدْمِهِ، إنَّما هو في ظهورِ حقيقةِ كلِّ من الخيرِ والشرِّ أو خفائِهِما. فالناتجُ من الحركةِ الاجتماعيةِ بخيرِهَا وشرِّهَا هو دوماً لصالحِ الخيرِ!. لماذا؟.. لأنَّ الخيرَ ليس سوى هذا الظهورِ، والشرَّ ليس سوى الخفاءِ أو عَدَمِ الظهورِ. الخيرُ وضوحٌ والشرُّ تعتيمٌ، الخيرُ يخطِّطُ للإنفكاكِ عن الشرِّ لكي يتميَّزَ عنه، بينما الشرُّ يخطِّطُ للالتحامِ به واحتضانِهِ بحيثُ لا يمكنُ التمييزُ بينهما، وبحيثُ يكونُ جلجامشُ والثورُ على قَدَمِ المساواةِ.. بل ربَّما يكونُ الثورُ أحقَّ من جلجامشَ بالمُلْكِ. وإذنْ فظهورُ حقيقةِ كلٍّ منهما وتميزُهُمَا هو الخيرُ. وتؤكِّدُ الملحمةُ على أنَّ عملَ الشرِّ بلا طائلٍ لأنَّه مهما فَعَلَ أزدادَ بُعْداً عن الخيرِ وحَصَلَ على نتائجٍ معكوسةٍ… ومن هنا تصبحُ حتميةُ ظهورِ الخيرِ وفناءِ الشرِّ في النهايةِ حتميةً ناتجةً عن هذا الظهورِ المتكرِّرِ للخيرِ وجلاءِ أمرِهِ والانتكاساتِ المستمرَّةِ للشرِّ وخيبتِهِ. بَيْدَ أنَّ هذه الحتميةَ في فناء الشرِّ هي حتميةٌ (دهريةٌ) تحتاجُ إلى حُقَبٍ وأجيالٍ ودهورٍ.. أنَّها حتميةٌ (مؤَّجلةٌ) تعتمدُ بالدرجةِ الأولى على عددِ الظهوراتِ وسرعتِهَا وقوَّتِها. ومن هنا تبدو هذه الفقرةُ وكأنَّها متلاحمةٌ مع مشاعرِ (آنو) إلهِ السماءِ بشأنِ الفتنةِ، إذ أبْدَى استعداداً للتدخُّلِ وخَلْقِ فتنةٍ لأنَّ الفتنةَ تخدِمُ قضيتَهُ وهي ظهورُ الخيرِ لأنَّها تميَّزَتْ بين الفريقين من خلالِ الصراعِ الذي يحدِثُ بينهما. لكنَّ الفرضيةَ في السؤالِ السابقِ ليست سوى فرضية.. فهي غيرُ صحيحةٍ وغيرُ محتملةٍ في الواقعِ الاجتماعي، لأنَّ جلجامشَ حكيمٌ وواعٍ وأنكيدو طاهرُ القلبِ فلن يقعَ بينهما العداءُ المستمرُّ الذي ينتظرُهُ الأشرارُ، إذ الحكمةُ تكشفُ الطهارةَ والطهارةُ تقودُ إلى الحكمةِ. وهكذا أدخلَ الكاتبَ عنصراً آخراً للتعبيرِ عن هذا الكشفِ المتبادلِ بينهما. فقد رأى جلجامشُ رؤىً تؤكِّدُ له مجيءَ صديقٍ حميمٍ وقويٍّ مِثْلَهُ وهو ليس أعمى القلبِ ليقتُلَ أوّلَ خصمٍ يراهُ جاءَ من البريةِ، ولذلك كانت نفسُهُ تحدِّثُهُ عمّا إذا كان هذا الرّجلُ الذي يخاصمُهُ ويقاتلُهُ هو الصديقُ الحميمُ المنتظرُ. فكانت المقابلةُ من جهةِ جلجامشَ هي مقابلةُ العضيدِ والأخِ المُرتَقِبِ، وقد فَعَلَ هذا الشّعورُ فعلَهُ في تنبيهِ أنكيدو. ومن هنا نعلمُ وجهَ الخطأ الآخرِ من تلك الأخطاءِ المتلاحقةِ لشُرّاحِ الملحمةِ حينما اعتقدوا أنَّ جلجامشَ أعجبَ بقوَّتِهِ فَتَرَكَهُ. فالنصُّ هو الذي يوضِّحُ السّببَ من خلالِ المحاورةِ، لأنَّ جلجامشَ كان هو الأقوى في نصِّ الملحمةِ، وهو أمرٌ مقصودٌ. فالقوَّةُ الواعيةُ الحكيمةُ أعظمُ من القوَّةِ الوجدانيةِ اللاواعيةِ وإنْ تساوتْ القوّتان ظاهرياً بتشابهِ الأجسادِ والأسلحةِ واتّفقتا في الصدورِ عن الحقِّ والعدلِ. وإذنْ فلم يكنْ جلجامشُ مُعْجَبَاً بقوَّتِهِ الجسديّةِ، وإنّما كان يترقَّبُ أصلاً مجيءَ قوَّةٍ مساندةٍ، وإذا كانت هذه القوَّةُ قد لاقتْهُ الآنَ متمثِّلةً بأنكيدو وهو في غايةِ الهيجانِ والغضبِ لقتلِ جلجامشَ، فقد ازدادَ إعجاباً وحبَّاً له على عكسِ ما يتوهَّمُ المرءُ، لأنَّ أنكيدو مدفوعٌ الآنَ بقوَّةِ الفضيلةِ لا سواها.. من حيثُ حشا الأشرارُ قلبَهُ بغيظٍ شديدٍ على (جلجامشَ).. الذي هو الآنَ بصورةٍ مناقضةٍ تماماً لجلجامشَ الحقيقيِّ. يدركُ جلجامشُ جيّداً أنَّ هذا الذي يقاتلُهُ الآنَ إنَّما يقاتلُ عدوّاً مشتركاً لهما هو(جلجامشُ) الصورةُ المشوَّهةُ التي رسَمَهَا المغتاظون، إنّها في الحقيقةِ صورتَهُم.. وهاهو أنكيدو يقاتلُهُم الآنَ بَيْدَ أنَّه لا يستطيعُ التّمييزَ ولا يدري أينَ هُمْ، فحَسِبَ أنَّهُم في جلجامشَ كما أوحى له عدوُّهُ بذلك. يحتاجُ أنكيدو في هذه الّلحظةِ إلى إشارةٍ واحدةٍ فقط ليصحوَ ويستردَّ وعيَهُ الغائبَ. وفي القتالِ تتلاشى معانيَ المفرداتِ وتضيعُ الخططُ وليست ثمّةُ إمكانيةٌ ليقولَ له جلجامشُ: (تمهَّلْ.. أنتَ واهمٌ.. وأنا الرّجُلُ الذي تُحِبُّ وإن ما سمعتَهُ عنّي مجرَّدُ أكاذيبٍ..!).. فمثلُ هذه الأقوالِ ستكونُ على العكس تماماً ممَّا يُرادُ منها.. فالقتالُ إذا وقعَ لا بدّ أن تكونَ تلك الإشارةُ من نوعِ القتالِ نفسِهِ لا من شيءٍ آخرٍ. وقد جاءتْ تلك الإشارةُ أخيراً حينما تمكَّنَ جلجامشُ منه ولكنّه لم يقتلْهُ، بل عَفَا عنه. وسرعانَ ما انتبهَ أنكيدو إلى أنَّه بإزاءِ فارسٍ من الفرسانِ بأوصافٍ عاليةٍ من الفروسيةِ، وليس هو أمامَ مَلِكٍ ظالمٍ جبَّارٍ كما وصَفُوهُ له. فهل رأيتَ جبّاراً أو سمعتَ بظالمٍ يعفو عن خصمِهِ الذي أراد قتلَهُ؟ ومتى كانَ للجبّارِ أصدقاءٌ أو أرحامٌ يتخلّصون من شرِّه حتّى يكون له خصومٌ ينالُهُم عفوُهُ؟. وكانت تلك إشارةٌ كافيةٌ جداً وواضحةٌ جداً بالنّسبة لأنكيدو الطّاهرِ، أنكيدو الذي انقلبَ موقفُهُ في لحظةٍ واحدةٍ فنادى صارخاً: أنتَ الرّجُلُ الأوحدُ أنتَ الذي وَلَدَتْكَ أمُّكَ ننسون المقدَّسةُ ورَفَعَ إنليلُ رأسَكَ عالياً فوقَ النّاسِ وقدَّرَ إليك الملوكيّةَ على البَشَرِ وهكذا اكتشفَ أنكيدو من هذه الإشارةِ ما افتُتِحَتْ به الملحمةُ من صفاتِ جلجامشَ. فلم يتوقَّفْ كشفُهُ على فروسَّيَّتِهِ وشجاعتِهِ، بل أكتشفَ أنّ هذا المَلِكَ إنَّما هو مَلِكٌ من تنصيبِ الإلهِ لا من تنصيبِ الناسِ أو اختيارِهِم، إذ المعلومُ أنَّ (السّلطانَ) أو(كرسيَّ السلطةِ) هو موقعٌ تتصارعُ عليه قوىً كثيرةٌ واتجاهاتٌ عِدَّةٌ ويستحيلُ وصولُ صاحبِ الحكمةِ إليه إلاَّ بلطفِ إلهٍ أو عنايةٍ خاصةٍ لمرحلةٍ محدَّدةٍ. لماذا؟.. لأنَّ من طبيعةِ الحُكماءِ رَفْضَ الإكراهِ والدّفاعَ عن الحرِّيةِ. وهذه الصّفةُ فيهم تقفُ حجرَ عثرةٍ دون بلوغِهِم السّلطانَ، إذ يتوجَّبُ عليهم لبلوغِهِ أنْ يسحقوا من يقفُ في طريقِهِم من القوى والاتجاهاتِ، وهو عَمَلٌ لا يؤمنون بِهِ أصلاً ولا يفعلونَهُ في كلِّ الأحوالِ. لكنَّ الملحمةَ تذهبُ إلى ما هو أبعدُ من ذلك حينما تقرِّرُ من خلالِ الأحداثِ أنَّ الشرَّ لا يقدِرُ أصلاً على القيامِ بالحركةِ الأولى من غيرِ أن يتبنَّى مقولاتِ الخيرِ. فقد تمَّ استجلابُ أنكيدو من البريّةِ بناءً على أمرٍ أو إذنٍِ من جلجامشَ. وتفسيرُ ذلك: إنَّ كلَّ فِعْلٍ يجبُ أن يكونَ له هدفٌ محدَّدُ وألاَّ فإنَّه سيكونُ عبثاً. ولذلك يحاولُ الشرُّ كخطوةٍ أولى الإعلانَ عن الأهدافِ التي تكون عادةً (نبيلةً جداً) وجزءً من متطلّباتِ الخيرِ. الشرُّ إذنْ يرفعُ شعاراتٍ كاذبةً. ولمَّا كان لا يُوجَدُ أيُّ مسوّغٍ لإدخالِ (متوحِّشٍ) بريٍّ إلى مملكةٍ متحضِّرةٍ، فليس هناك وسيلةٌ أفضلُ من أن يأتيَ إذنٌ بإدخالِهِ من رئيسِ المملكةِ وحكيمِهَا جلجامشَ، وذلك لحمايةِ الصيّادينَ في مملكتِهِ من هذا الوحشِ الذي يمنعُهُم من ممارسةِ مهنتِهِم المفضَّلةِ في قَتْلِ حيواناتِ البريةِ. لقد حدثَ ذلك بعدَ نصيحةٍ قدَّمها والدُ الصيّادِ لابنه، إذ أشارَ عليه بالذهابِ إلى جلجامشَ المَلِكَ لاستحصال موافقتِهِ الخاصَّةِ بذلك. لا ندركُ بالضبطِ فيما إذا كان الصيّادُ مرتبطاً أصلاً بالمغتاظينَ من أبناءِ أوروك، إذ لم تُشِرْ الملحمةُ إلى ذلك صراحةً، ولكن ما وراءَ السّطورِ ينبئ عن تلك العلاقةِ، إذ لو كانت الغايةُ هي حمايةَ الصّيدِ وحسب، فقد كان يمكنُهُ أن يستأجرَ أيَّةَ بغيٍّ من غيرِ إذن الملك ويفعلُ ما بوسعِهِ أن يفعله لإغرائِهِ بالدّخولِ إلى المدينةِ. وما الذي جاءَ بالرّجلِ المشتكي متحمِّلاً هذا (السّفر الشاقّ) حسب تعبيرِ النصِّ إذا كان الصيّادُ لا غايةَ له سوى حمايةِ الصيّدِ من الوحشِ المُصِرِّ على فكرةِ (الرّفقِ بالحيوان)؟!. وما الذي دعا البغيُّ إلى أن تُطَعِّمَ (حبَّها) لأنكيدو بعباراتِ التحريض على جلجامشَ ما لم يكنْ هناك اتّفاقٌ مسبقٌ بينها وبين الصّيادِ وبين هؤلاء جميعاً وبين (المغتاظين)؟. لم تُخبِرْهُ البغيُّ أنّ المَلِكَ هو الذي أَذِنَ بمجيءِ أنكيدو إلى المدينةِ، بل أنبأتْهُ أنَّه يتوجَّبُ عليه أن (يتحضَّرَ) ويترِكَ (التّوحُشَ) وأنَّ واجبَهُ المقدَّسَ يُملي عليه تخليصَ (المعبدِ الطّاهرِ) من جلجامشَ الذي يُؤْذي النّاسَ ويهتِكَ أعراضَهُم في المعبدِ أو(بيتِ الاجتماعِ). إذنْ.. فالمومسُ البغيُّ كانت متآمرةً على جلجامشَ ومُرْسَلَةً من قبل أعداءِهِ. ومن الذي يتآمرُ على الفضيلةِ سوى من هو مثلِ (المومس) و(الصّياد)؟. فالرّموزُ هنا تتوالى متتابعةً إلى غرضٍ واحدٍ، وليس الصيّادُ إلا رمزاً لكلِّ متصيِّدٍ يقتنصُ الفُرَصَ.. إنَّه بالتعبيرِ المعاصرِ (الشّخصَ الانتهازيَّ). والانتهازيةُ تيارٌ غيرُ مكشوفِ الأفرادِ وهكذا بَقِيَ الصيّادُ وابنُهُ في الملحمةِ من غيرِ أسماءٍ معلومةٍ!. والانتهازيةُ ظاهرُهَا شيءٌ وباطنُهَا شيءٌ آخرٌ، وهي تعملُ بوجهين. وهكذا كانت الغايةُ المعلَنَةُ هي حمايةَ الصّيدِ في البريّةِ، والغايةُ الحقيقيةُ هي قتلَ جلجامشَ الذي لا يَغْفِلَ فيمكنُ قتلَهُ اغتيالاً. والمومسُ كائنٌ رخيصٌ يُتاجرُ بجسدِهِ.. إنّها تختلفُ عن الزّانيةِ، وإنَّ التعبيرَ الملائمَ لترجمتِهَا في الملحمةِ هو (العاهرةُ) أو(الفاجرةُ) وليس (المومسُ). فثمَّةُ أوصافٌ نفسيّةٌ لا مهنيةٌ فقط في التّسمياتِ المقترحةِ أُهْمِلَتْ في التّرجماتِ السّائدةِ لعدمِ اهتمامِهِم بالرّباطِ بين عناصرِ وشخوصِ الملحمةِ. وترجمَتُها بالبغيِّ عند (طه باقر) أقربُ إلى صفتِهَا النّفسيةِ لأنَّهُ لفظٌ مشتَقٌ من البغيِ. فالصيّادُ والبغيُّ، الانتهازيُّ والفاجرةُ ليسوا إلاّ أدواتٌ منفّذَةٌ لخُططِ الشرِّ التي تجري في الظّلامِ والتي شعاراتُهَا شيءٌ وأهدافُهَا شيءٌ آخرٌ. وهي الصّفةُ المشتركةُ بين الصيّادِ والبغيِّ. لذلك كانت البغيُّ تُظهِرُ المودَّةَ لأنكيدو وهي تدركُ جيداً إذ تغريهِ بقتلِ جلجامش أنَّ هنالك احتمالاتٍ أقوى في أنْ يقتلَهُ جلجامشُ إذا التقيا. بَيْدَ أنَّ البغيَّ هذا هو شغلُهَا.. فالحبُّ الذي تهديهِ هو (حبٌّ) مدفوعُ الأجرِ سلفاً، ولذلك فهو لا يختلفُ ولا يتميّزُ بشيءٍ عن البُغْضِ!. مازالتْ (المومسُ البغيُّ) وهذه هي ترجمتها عند الغربيين وعند (الأحمد) تغري انكيدو منذُ وقتٍ مبكّرٍ جداً، وما زالت تشوِّهُ صورةَ جلجامشَ أمامَهُ حتّى جعلتْهُ يصرخُ: هَلُمِّي أيَّتُها البغيُّ.. خُذيني إلى البيتِ الطّاهرِ مسكنِ آنو وعشتارَ حيثُ يحكمُ جلجامشُ المكتملُ الحَوْلِ والقوَّةِ المتسلِّطُ على النّاسِ كالثورِ الوحشي سَأتَحَدَّاه وأُغلظَ له القولُ وسأصرخُ في قلبِ أوروك: أنا الأقوى أجل… أنا الذي سأُبَدِّلُ المصائرَ الذي وُلِدَ في البريّةِ وهو الأشدُّ والأقوى جَمَعَتْ البغيُّ وكما هو ظاهرُ من النصِّ إلهينِ اثنينِ متناقضينِ أشدّ التناقضِ لخلطِ الأوراقِ بين الخيرِ والشرِّ وإتلافِ الوعيِّ الذي يتمتّعُ به أنكيدو: إلهُ السّماءِ آنو… إنَّهُ الإلهُ الواحدُ الحقيقيُّ.. إلهُ جلجامشَ الذي سمّاه هو ملكاً، وعشتارُ ربَّةُ الآخرين وعدوَّتُهُ اللدودة. لقد باءت المؤامرةُ بالفشلِ لأنَّ انكيدو كان من (طينةٍ) أخرى نقيّةٍ وطاهرةٍ، فعرفَ من هي عشتارُ فيما بعدُ فقذفَ بوجهِهَا (رِجْلَ الثورِ) الذي علَّقتْ عليه آمالَهَا لاعناً إيّاها أشدَّ اللعنِ ومذكِّراً لها بأنَّ مصيرَهَا في النّهايةِ كمصيرِ ثورِهَا!. كان أنكيدو من طينةٍ نقيّةٍ، فقد خلَقَتْهُ (أورورو) من قبضةٍ من طينةِ الأرضِ بيدينِ غسلتهُمَا مرّتينِ كعابدٍ تقدَّمَ بالوضوءِ إلى الصّلاةِ. (أورورو) رمزُ (الأقدارِ) التي تفعلُ كلَّ شيءٍ من خيرٍ وشرٍّ بعدَ إذنِ آنو إله السّماءِ الذي هو الوحيدُ الذي يستطيعُ أن يلويَ عنقَ (أورورو)، حيث لا تستطيعُ حتّى (عشتارَ) التي هي الحياةُ وأمُّ الخَلْقِ كلِّهم أن تخلقَ ما تقترحُهُ من مخلوقاتٍ من غيرِ أن يأذنَ آنو. آنو الذي أسمُهُ (الأنا) إذ لا كائنَ غيرُهُ يقول أنا إلاَّ ويُعَدُّ كاذباً لأنّه (الأنا) الأزليُّ. وما مجمعُ مُلاّكِ الكائناتِ وأربابِهِم إلاَّ عبيداً له، إذ هم عبارةٌ عن (لاشيء) مهما امتلكوا من قُدُراتٍ، إنَّهُم التّعبيرُ عن اللا شيء الذي معه. إنّهم: (آنو ـ ناكي)، إذ بِهِ وحدِهِ قاموا وبِهِ وحدِهِ امتلكوا وبِهِ كانوا بعد إذ لم يكونوا. ( آنو) الذي أسماءُهُ لا تُحصى عدداً لأنّها بعدَدِ الذين يردِّدون من بعدِهِ ( أنا.. أنا) كذباً، وبعدَدِ الذين يردِّدون (هو هو) صدقاً من الكائنات. (آنو) الذي تمثِّلُ (أورورو) سرَّاً من أسرارِهِ الخاصّةِ جداً والذي لا ينبغي لأحدٍ الإطلاعَ عليها ولا يَقدِرُ على ذلك، وعلاقتُهَا به غامضةٌ، إذ لا يعلمٌ أحدٌ متى وكم مرَّةً تغسلُ (أورورو) يديْهَا؟ مرّةٌ في اليوم أم مرَّةٌ في القرنِ أم مرَّةٌ في الدّهر لتجودَ على الخَلْقِ بمثل أنكيدو!!. تتحوَّلُ يداها إلى آلةٍ أخرى تتّصلُ مباشرةً بالنّورِ (ننورتا) بعدَ الغسّل فيأتي مَنْ تخلقُهُ محضَ نورٍ في جسمٍ ماديٍّ. ولذلك يبقى مَنْ تخلقُهُ (أورورو) بهذه الطريقةِ العجيبةِ شخصاً عجيباً في عالمنا، هو فيه وليس فيه، وهو منهُ وليس منهُ، تجتمعُ كلُّ الظلماتِ والشّرورِ التي تخلقُهَا (أورورو) بلا كَلَلٍ فلا تُضِلُّهُ عن رؤيةِ الهدفِ ومعرفةِ الطريقِ وكأنَّ عندها (معادلةٌ) كيميائيةٌ متوازنةٌ أو ينبغي أن تتوازنَ من الطّرفين: ملايينٌ من الأشرارِ يكشفُ زيفَهُم واحدٌ من نسلِ ننورتا. فهل يستطيعُ مخلوقٌ ما أن يقترحَ على (أورورو) وهي بهذه العلاقةِ السّريةِ مع آنو أيَّ مقترحٍ فتأخذُ به فوراً؟ وهل هناك مِنْ أحمقٍ يقترحُ على (أورورو) أصلاً؟ ومن ذا الذي يقترحُ على (الأقدار) سرَّ آنو الذي لا ينكشِفُ؟. لكنَّ الأشرارَ حمقى بطبعِهِم وليس اقتراحُهُم إلى (آنو) ليأمُرَ الأقدارَ ألاَّ اقتراحاً على الأقدارِ نفسِهَا، وكلُّ ما فيه هو زيادةٌ في الجرأةِ على آنو ورغبةٌ منهم في مشاركتِهِ في الألوهيةِ إلى حدِّ أنَّهُم يطلبونَ منه أن يَقِفَ بجانبهِم ضِدَّ نفسِهِ!!. لأنه حينما أَذِنَ بوجودِ جلجامشَ في العالَمِ، فأنَّه أرادَ بذلك التعريفَ بنفسِهِ فهل يأمرُ بخَلْقِ كائنٍ يهلكُ جلجامشَ؟. لا يخبرُنَا النصُّ مطلقاً بإجابةِ آنو لمن تقدَّموا بهذا الطلبِ. إذ يبدو أنَّه أشارَ بالإيجابِ فقط و(اورورو) تعرفُ شغلَهَا بالطبعِ في حالاتٍ كهذه يطلبُ فيها المخلوقُ الذي هو (لا شيء) من (ألانا) الأوحدِ إلغاءَ ذاتِهِ وكيانِهِ أو بما هو معناه: أستمعَ آنو إلى شكواهُم ودَعَوا (أورورو) العظيمةَ وقالوا لها: يا (أورورو) أنتِ خلقتِ هذا الرجُلَ الجبَّارَ فاخلقي الآن غريماً له (شبيهاً به) وليكنْ مضاهياً له في قوَّةِ اللُبِّ والعزمِ وليكونا في صراعٍ مستديمٍ لتنعمَ أوروكَ بالراحةِ إذن.. فقد سمحَ آنو أن يكلِّموا (أورورو) في الأمرِ… بعد ما فشلوا في محاولاتِهِم السابقةِ حينما قدَّموا طلبَهُم هذا إلى جميعِ مُلاَّكِ السماوات الذين سمّاهُمْ الشُرّاح خطئاً (آلهةً) وهم ليسوا سوى (أربابٍ). فلماذا أَذِنَ آنو أصلاً بسماعِ الطلبِ؟ إنَّ آنو يسمعُ (بطبعِهِ) وليس مثلَ المخلوقاتِ. فهو إذا لم تُرِدْ أن تَسمعَ فلن تسمعَ، لأن آنو يسمعُ دوماً ويسمعُ كلَّ شيء، إذ لا شيءَ مسموعٌ يؤثِّرُ عليه حتى يتركَ سماعَهُ فهو سميعٌ علاوةً على كونِهِ سامعٌ. ولم يطلبْ الأشرارُ ألاَّ مطلباً متناقضاً في ذاتِهِ، بحيثُ إذا استجابَ لأيِّ واحدٍ من جزئيهِ المتناقضَينِ كانت النتيجةُ أنَّهم طلبوا هلاكَهُم. فلماذا لا يستجيبُ آنو لواحدٍ منهما وليكن الأوَّلُ كما هي عادتُهُ لأنَّه لا يزوِّرُ الطلباتِ ولا يُغيِّرُ في ترتيبِهَا. فمطلُبُهم الأوَّلُ أن يكونَ المخلوقُ مضاهياً لجلجامشَ في قوَّةِ اللُبِّ والعزمِ. وهو مطلبٌ يُناقضُ الشرطَ الآخرَ الذي هو أن يكونا في صراعٍ مستديمٍ لأنَّ من شأنِ قوَّةِ اللُبِّ والعزمِ أن تمنحَ صاحبَهَا الحكمةَ والوعيَ وبالتالي فلن يكونَ في صراعٍ مع جلجامشَ، بل سيكونُ ظهيراً له. وليس ذلك بسببِ سوءِ حظِّهِم في ترتيبِ الشروطِ، بل لسوءِ نواياهُمْ التي أعمَتْهُم عن ملاحظةِ التناقضِ. ولو كانوا قد غيَّروا الترتيبَ فطلبوا خصماً في أوّلِ الأمرِ مستديمَ الصراعِ مع جلجامشَ ومتَّصفاً بقوَّةِ اللُبِّ والعزمِ ثانياً لكانَ الأمرُ في نتيجتِهِ النهائيةِ واحدةً، إذ سيكونُ المخلوقُ المُقترَحُ خصماً فقط ولن يكونَ قويَّ اللُبِّ والعزمِ. ولكنْ أليس هذا هو عينَهُ (الثورَ) الذي اقترحوه فيما بَعْدُ على عشتارَ حينما ناصَرَ انكيدو جلجامشَ وفشلتْ المحاولةُ الأولى، وهو الثورُ الذي سمحَ آنو أيضاً بخلقِهِ؟ مَنْ ذا يغلبُ آنو وهو (الغالبُ على أمرِهِ) دوماً؟ وما دام آنو قد سمعَ الطلبَ فإنَّ (اورورو) تدركُ جيداً واجباتِهَا، ولذلك شمَّرتْ ذراعيها وبدأتْ بخَلْقِ انكيدو بشرطِ أنْ يكونَ قويَّ اللُبِّ والعزمِ. وإنَّها لفرصةٌ فريدةٌ بالنسبةِ لها. فَمِنْ أندرِ الأشياء أنْ يأذِنَ آنو بأن تغسلَ الأقدارُ يديْهَا من (الشرِّ) الذي لا تفتأُ تخلقُهُ تباعاً لتجودَ على الخلْقِ بمخلوقينَ من نَسَلِ ننورتا في جيلٍ واحدٍ. فلاحِظْ إسراعَهَا بالتنفيذِ في مفردةِ (حالما): حالما سمعتْ اورورو ذلك غسلتْ يديها تصوَّرتْ في لُبِّها صورةً لآنو وغسلتْ اورورو يديها وأخذتْ قبضةً من طينٍ ورمتها في البرية وفي البرية خلقتْ انكيدو القوي نسل ننورتا لقد جاءَ انكيدو كائناً نورانياً خلاصةً للنورِ ننورتا أو من جوهرِهِ ذلك لأنَّ مفردةَ (نسل) والتي هي في الأصل (قسرو) ليست أكيدةً عندَ المترجمين، إذ وردتْ في الطبِّ القديمِ بمعنى (خلاصةٍ أو جوهرٍ) كما ذكر طه باقر في ص79. وتلك هي الصورةُ التي تمثِّلُها لآنو عند خلْقِ أنكيدو. فهو تمثِّلٌّ روحيٌّ وجوهريٌّ، إذ ليس معناه أنَّ لآنو صورةً يمكن إدراكُهَا سوى كونه نوراً: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (النور: من الآية35) فالتمثيلُ الروحيُّ لآنو ممكنٌ من الكائناتِ مثلما ذكَرَ القرآنُ الكريمُ في قولِهِ تعالى: ( وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) (النحل: من الآية60) فهو من جهةٍ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (الشورى: من الآية11)، إذ لا مِثْلَ ولا مِثالَ (بكسر الميم)، ومن جهةٍ أخرى له المثلُ الأعلى، إذ أنَّ الأشرارَ لا يمثِّلون أمرَهُ ونهيَهُ وإرادتَهُ وإنَّما يمثِّلُ ذلك (الأعلى) من الخلْقِ الذي يَسمو على عشتارَ ومن ارتبطَ بها برابطةٍ. وهكذا جاءَ أنكيدو مثلاً أعلى وممثِّلاً للخيرِ الذي أرادَهُ آنو في الأرضِ، لأنَّه تعبيرٌ عن النقاءِ والطهارةِ، وهو يمكنُ أنْ ينخدعَ ولكنَّه من المُحالِ أنْ ينحرِفَ. السِّمَاتُ الثَابِتَةُ ِللْشَخْصِيَّةِ في النصِّ الملحَمي وضَعْنا هذا العنوانَ هنا لنؤكِّدَ على أنَّ ثباتَ خصائصِ الشخصيَّةِ في النصِّ السرديِّ عموماً والمَلْحَمي خصوصاً هو مبدأٌ من مبادئِ النقدِ الصحيحِ الذي نفترضُ أن يؤخَذَ به كمبدأ مستقبلاً. ونعني بهذا الثباتِ أنَّ لكلِّ شخصيَّةٍ يتمُّ عرضُ فصلٍ من حياتِهَا في قصَّةٍ أو روايةٍ أو ملحمةٍ أو خلالَ المحاوراتِ القصيرةِ خصائصَ معيَّنةً لا يجوزُ الاعتقادُ بوجودِ نقائضٍ لها في عين الوقت. وإذا لم يستطعْ النقدُ استخلاصَ تلكَ السماتِ فإنَّ ذلك إمَّا يدلُّ على فشلِ المحاولةِ النقديةِ أو يدلُّ على عِسْرِ النصِّ إلى حدٍّ يتساوى فيه مع الهذيانِ. فليس من الواقعيةِ في شيءٍ أن يكونَ (زيدٌ) مثلاً في قصَّةٍ ما شجاعاً وجباناً في آنٍ واحدٍ أو أن يكونَ خجولاً ومشهوراً في ذاتِ الوقتِ والمرحلةِ. ولكنْ من الممكنِ أنْ يتحوَّلَ خلالَ سيْرِ الأحداثِ ومرورِ الزمانِ من صفةٍ إلى صفةٍ وإن كانت نقيضاً لها. ولكن هذا التحوِّلَ سيكونُ جزءاً من وحدةِ الفكرةِ المعروضةِ عن الشخصيةِ، وإنَّ استخلاصَهُ سيكونُ من جملةِ نتائجِ العمليةِ النقديةِ. ولكن حينما تكونُ هناك قراءتان للنصِّ تؤكِّدُ كلٌّ منهما خصائصاً تناقضُ ما تؤكِّدُ القراءةُ الأخرى فالناتجُ هو أنَّ إحدى القراءتين خاطئةٌ أو ربّما كلاهُمَا خاطئتان. ولكنْ من غيرِ الممكنِ اعتبارِ القراءتين على قدمِ المساواةِ من الصحَّةِ. والذي يدفعُنَا إلى التحدُّثِ عن هذه الوجوهِ المتعدِّدةِ ... القيصر $ | |
|
| |
{ القيصر }
عدد المساهمات : 311 النقاط : 517 الشُّهرة : 3 تاريخ التسجيل : 20/03/2011 العمر : 35 المكان : سوريا - حمص - مقيم في السعودية الجنس : المزاج : اعتباراً من الغد
| موضوع: رد: ملمحمة جلجامش البابلية السبت 25 يونيو 2011, 9:19 pm | |
| المقطع العشرون للقراءةِ هو زعمُ البعضِ أنَّ النصَّ يمكنُ تأويلُهُ إلى أكثرِ من وجهٍ، ويمكنُ اعتبارُ كلَّ الأوجهِ صحيحةً من جهةِ أصولِ النقدِ ولو تناقضَتْ فيما بينها!. وهذا كلامٌ وإن جرى منذ القِدَمِ وتمَّ تطبيقُهُ في جميعِ النصوصِ بما في ذلك النصوصِ المقدَّسةِ إلاَّ أنَّ خطورتَهُ على الفكرِ وتطوِّرِهِ لا تخفى على أحدٍ مطلقاً، إذ لا يبقى أيُّ مسوغٍ لنشرِ تلك التأويلاتِ مادام هناك من يمنعُ اعتبارَ بعضِهَا خاطئةً. فالمتلقِّي لا يستخلصُ منها ما يعِدُّهُ صحيحاً، إذ لا يَحِقُّ وفقَ هذا الرأيِّ تخطئةَ التأويلاتِ الأخرى، بل يتوجَّبُ عليه (احترامَهَا) كآراءٍ صحيحةٍ من وجهةِ نظرِ آخرينَ!. وَقَدْ يُرادُ بهذه الفكرةِ ترسيخُ اعتباطيةِ الفكرِ من خلالِ اعتباطيةِ اللغةِ. فالفكرةُ نفسُهَا اعتباطيةٌ، إذ أنَّ النصَّ وفقَ المبادئ الاعتباطيةِ يمكنُ تأويلُهُ إلى جهاتٍ متناقضةٍ. ولكنْ لا بدَّ للمُدافعينَ عن هذه الفكرةِ من الاعترافِ بأنَّ إمكانيةَ التأويلِ شيءٌ وصحَّةَ التأويلِ شيءٌ آخرٌ. فالنصُّ وفقَ تلك المبادئ يمكنُ تأويلُهُ من قبلِ المقتدرينَ والفاشلينَ والمغرضينَ والمتشدِّقينَ… إلى بقيةِ الأصنافِ. ولكنَّ صحَّةَ وخطأ هذه التأويلاتِ هو غيرُ تلك الإمكانيةِ. والإدِّعاءُ بأنَّ النسبيةَ العامَّةَ في الأشياءِ تسانِدُ هذه الفكرة َهو مجرَّدُ ادِّعاءٍ لا يقومُ على أيِّ برهانٍ علميٍّ لأنَّ النسبيةَ هي الأخرى نسبيةٌ مادامت عامَّةً ومطلقةً. ومثالُ ذلك أنْ يدَّعي (زيدٌ) بأنَّ (مالكاً) الذي يجلسُ إلى جوارِهِ غيرُ موجودٍ بالنسبة إليه. وإذا ادَّعى مالكٌ الشيءَ نفسَهُ بخصوصِ (زيدٍ) فإنَّ اعتداءَ بعضِهِما على بعضٍ سيكونُ محتوماً. فلا يمكنُ للناسِ إن يتعاملوا بمثلِ هذه الطريقةِ. فثمَّةُ حدودٌ لهذه النسبيةِ، لأنَّ النسبيةَ إذا لم تكنْ نسبيةً فَقَدَتْ اسمَهَا. وسببُ ذلك أنَّها ستبقى غيرَ نسبيةٍ، وبالتالي لن تكونَ عامةً ومطلقةً. وما مشروعُ قصديةِ اللغةِ الذي ذكرناهُ في مؤلفاتٍ أخرى ألاَّ محاولةً لتحديدِ هذه الحدودِ وكشفِ زيفِ الاعتباطِ اللغويِّ. وعلى ذلك فإنَّ التغيرَ اللامنطقي في سماتِ الشخصيَّةِ ليس إلاَّ واحداً من مصائبِ الاعتباطِ حيثُ زَعَمَ أنَّ جلجامشَ كان رجلاً حكيماً عالماً ملِكَاً ثمَّ أصبحَ ظالماً متعدِّياً على أهلِ مملكتِهِ ثمَّ ماتَ صديقُهُ (أنكيدو) فبَحَثَ عن الخلودِ فراراً من الموتِ، فلمَّا فشلَ في الحصولِ عليه آثَرَ أنْ يخلِّدَ نفسَهُ بالأعمالِ الصالحةِ!. أقولُ: لو كانَ ظالماً في البدءِ ثم حكيماً في النهايةِ لكانَ ذلك يمثِّلُ تطوِّراً في سلوكِهِ يحتاجُ بالطبعِ إلى إثباتٍ في النصِّ نفسِهِ، وهو ما لا وجودَ له في النصِّ. وكذلك لو كانَ حكيماً في البدءِ ثمَّ ظالماً في النهاية لوجدْتَ للقائلينَ عذراً ما ولو هو سوءُ فَهْمِ النصِّ. أمَّا أنْ تقومَ الوزاراتُ بتعليمِ التلاميذِ خلال شرحِهَا لخلاصةِ الملحمةِ أنَّ جلجامشَ كان ملكاً حكيماً ثمَّ أصبح ظالماً ثم استحالَ إلى رجُلٍ حكيمٍ بعد فشلِهِ في البحثِ عن الخلودِ.. فإنَّ مِثْلَ هذه (التشكيلةِ) من السلوكياتِ لبطلِ الملحمةِ لا يفهمُ منه التلميذُ أيَّةَ فكرةٍ.. لا عن تطوِّرِ سلوكِ الشخصيةِ ولا عن ثباتِ سماتِهَا العامَّةِ.. وكلُّ ما يستخلصُهُ منها هو أنَّ الحكمةَ والمعرفةَ والظُلْمَ هي أشياءٌ متشابهَةٌ على نحوٍ ما بحيثُ أنَّ التحوِّلَ من إحداهَا إلى الأخرى وبالعكس لا يُعتبرُ أمراً مُنكراً. إنَّ لهذه التحوِّلاتِ حدوداً ممكنةً وأخرى غيرُ ممكنةٍ. فمن جملتِهَا إنَّ العلْمَ قَدْ يُفْقَدُ والصلاحُ قَدْ يُتْرَكُ، وَقَدْ يرجعُ العلْمُ ويعاودُ المرءُ الصلاحَ. أمَّا الحكمةَ والمعرفةَ فهي أشياءٌ أخرى إذا دخلتْ قلْبَ المرءِ فأنَّها لا تُفْقَدُ ولا تَضْمَحِلُ. فالحكمةُ ليست فلسفةً، والمعرفةُ ليست علماً. فالمعرفةُ هي معرفةُ الأشياءِ، وحينما تبلغُ إلى درجةِ (معرفةِ النفسِ) تكونُ حكمةً. والعارفُ لنفسِهِ لن يتراجعَ ولن يفقِدَ علْمَهُ ومعرفَتَهُ مطلقاً. وهذا يدفعُنَا لفهمِ طبيعةِ التعارضِ بين العمودِ الأوَّلِ والعمودِ الثاني حيث أثنى النصُّ في العمودِ على جلجامشَ ثناءً قلَّ نظيرُهُ، بينما اختلفَ الأمرُ في العمودِ الثاني، حيث أشارَ النصُّ إلى ظُلْمِهِ للناسِ وذلك في اللَّوحِ الأوَّلِ. ومن خلالِ هذا الفهمِ نحاولُ إزالةَ هذا التعارضِ كما سيأتيكَ في الفصلِ الثاني. ... القيصر $ | |
|
| |
{ القيصر }
عدد المساهمات : 311 النقاط : 517 الشُّهرة : 3 تاريخ التسجيل : 20/03/2011 العمر : 35 المكان : سوريا - حمص - مقيم في السعودية الجنس : المزاج : اعتباراً من الغد
| موضوع: رد: ملمحمة جلجامش البابلية السبت 25 يونيو 2011, 9:20 pm | |
| المقطع الحادي والعشرون الفصل الثاني تَمْهِيدٌ لِلْكَشْفِ عَنْ جِلْجَامِشَ مَنْ هُوَ جِلْجَامِشُ؟ في أوائلِ البحثِ الآثاريِّ كانَ علماءُ الآثارِ يعتقدونَ أنَّ جلجامشَ بطلٌ أسطوريٌّ لا غيرَ. قَالَ (جورج رو) بعْدَ إن لخَّصَ ما تنطوي عليه الملحمةُ: (وبالطبعِ فقد كانَ جلجامشُ البطلُ مجرَّدُ أسطورةِ خياليةٍ محضةٍ) (العراق القديم) ـ 173. ولكنْ بعدَ فترةٍ توالتْ الكشوفاتُ الآثاريةُ التي أوردَتْ اسمُهُ كمَلِكٍ حَكَمَ في أوروكَ في فترةٍ محدّدةٍ، وتمَّ الكشفُ عن وثائقٍ ملوكية ٍفي عهدِهِ ومدوَّناتٍ تُسجِّلُ بعضَ أعمالِهِ ومشاريعِهِ. كما عُثِرَ على نصٍّ تاريخيٍّ يوضِّحُ أمرَ الحصارِ الذي فُرِضَ على أوروكَ في عهدِهِ وكيفيةِ قيامِهِ بحمايةِ المملكةِ وعقدِ الصُلْحِ مع (أكا) مَلِكِ كيش (طه باقر ـ 191). ومنذ ذلك الحين أصبحَ من المفروغِ منه وجودُ مَلِكٍ حقيقيٍّ بهذا الاسمِ حيث وَرَدَ أسمُهُ أيضاً في ثَبْتِ الملوكِ السومري ملكاً رابعاً في أوَّلِ سُلالةٍ من عصرِ فجرِ السلالاتِ بحدودِ (2700 ق.م). وهي أوَّلُ سلالةٍ حَكَمَتْ بعد الطوفانِ (جداول عصر السلالات ـ أوروك الأولى ـ جورج رو ـ 665). ومع ذلك فَقَدْ قَالَ جورج رو: (… ولكنْ ماذا عن جلجامشَ الملكِ؟ كانَ بمستطاعِ المرءِ حتى قبلَ سنواتٍ أن يشكَّ بوجودِهِ حقَّاً. وأمَّا الآنُ فتتوفَّرُ لدينا من الأسبابِ ما يكفي لحملِنَا على الاعتقادِ بأنَّ ملكاً بهذا الاسمِ قَدْ حَكَمَ فعلاً مدينة أوروكَ) ـ 173. وهكذا فعلَ الآثاريون والباحثون!.. فحيثُ تُوجدُ الدلائلُ الكافيةُ لإثباتِ وجودِهِ يجري فصلُ جلجامشَ الملك عن جلجامش بطل الملحمة!. ولا نحتاجُ إلى جهدٍ آخرٍ لاكتشافِ سببِ هذا التصرُّفِ الغريبِ في النصوصِ حينما لا تخضعُ لمعيارٍ واحدٍ لأنَّ الملحمةَ هي التي تجيبُ على هذا السؤالِ. فعلاوةً على أنَّها تؤكِّدُ وجودَ كثرةٍ من الأعداءِ لجلجامشَ البطلِ حيثُ تظهرُ الحكمةُ والمعرفةُ خلافاً لصفتِهِ كونه ملكاً وحسب من خلالِ إبرازِهَا لكثرةِ الكارهين للحقِّ والحرِّيَةِ، والخاضعين للملوكِ الذين يستخدمونَ الإكراهَ. ويظهرُ هذا الإبرازُ في حوارِهَا الفلسفيِّ المتينِ بينَ رموزِهَا.. أقولُ: علاوةً على ذلك فَقَدْ عانتِ الملحمةُ ذاتُهَا كنصٍّ مميَّزِ من حربٍ شعواء ضدَّها منذ ولادتِهَا حيث شُوِّهَت سطورٌ منها عن سَبْقِ قَصْدٍ وتَرَصٌّدٍ. حيث جَرَتْ محاولاتٌ أخرى لتهشيمِ ألواحِهَا أو استنساخِهَا بصورةٍ مختلفةٍ أو تزويرِهَا.. مثلما جَرَتْ محاولاتٌ أخرى لاستبدالِهَا بملحمةٍ أخرى تحملُ نفسَ الأسماءِ والرموزِ ولكنَّها تعتمدُ على فكرةِ الدفاعِ عن الشرورِ وخلطِ الأوراقِ في ذهنِ المتلقي. وَقَدْ دَفَعَتْ هذه المحاولاتُ ناسخَ الملحمةِ إلى تذييلِ الألواحِ والأعمدةِ وختمِهَا والتأكيدِ على أنَّها (طبقُ الأصلِ) حيثُ خَتَمَ جميعَ الألواحِ كما في النموذج التالي: (اللوحُ الحادي عشر مِنْ ـ هو الذي رأى كلَّ شيءٍ ـ من سلسلةِ (جلجامشَ) اسْتُنْسِخَ طبقَ الأصلِ وحُقِّقَ. مك تبةُ قَصْرِ آشور بانيبال ـ ملك العالم ـ ملك بلاد آشور). وَقَدْ أثارَتْ هذه العباراتُ الخاصَّةُ بالتذييلِ عجبَ الباحثين لإشارتِهَا إلى الاستنساخ (طبقَ الأصلِ) وتأكيدِهَا على (تحقيقِ النصِّ) وإشارتِهَا إلى العنوانِ والسلسلةِ والمكتبةِ، ولم يدرِكوا مغزاهَا إلا حينما عَثَروا على الكِسَرِ والقِطَعِ المهشَّمَةِ الأخرى لها في مواقعٍ متباعدةٍ حيث أفادَتْ دراستُهَا من حيثُ الشكلِ وأسلوبِ التهشيمِ إلى وجودِ أيدٍ عابثةٍ حاولتْ إتلافَهَا بشتَّى الوسائلِ. ويظهرُ إنَّ المَلِكَ آشورَ كان فيه شِبْهٌ من بعضِ الملوكِ الذين يستهويهُمُ العلمُ والمعرفةُ وإنْ كان يختلفُ عن جلجامشَ اختلافاً كاملاً. فهؤلاءِ لا يشعرون بكبيرِ ضرَرٍ من اقتناءِ جميعِ الكتبِ ولو تعارضَ بعضُهَا مع سياستِهِ، كالمأمونِ العباسي الذي كانَ يَعْقِدُ الندواتِ للاستماعِ إلى مختلفِ الآراءِ، والذي أَمَرَ بتأسيسِ دارٍ للكتبِ جَمَعَ فيها كلُّ ما وَقَعَ في يَدِهِ. والذي يدلُّ على توجُّهِ مَلِكِ آشورَ إلى هذا الاتجاهِ هو الإشارةُ التي وَرَدَتْ عنه في كتابِ (الحياةِ اليومية لبلادِ ما بين النهرين) لجورج كونتنينو التي أكَّدَت الفكرةَ السابقةَ تأكيداً كاملاً حيثُ قَالَ: (… وهذا هو الذي جَعَلَ العاهلَ الآشوريَّ متحمِّساً للحفاظِ على كلِّ المعرفةِ في زمانِهِ على الرغم ممَّا عُرِفَ عن تورِّطِهِ في أخطاءِ المباهاةِ والفظاظةِ والفظاعةِ والتخريبِ الشنيعِ أثناءَ حملاتِهِ العسكريةِ، ممَّا دَفَعَهُ إلى أن يبنيَ مكتبةً في قصرِهِ حَمَلَتْ اسمَهُ) ـ 320 . لَقَدْ أدَّتْ هذه الرغبةُ الجامحةُ في المباهاةِ الفارغةِ لدى الملكِ إلى اقتناءِهِ نسخةً أصليةً من الملحمةِ فَحَفَظَ لنا أقساماً هامَّةً من نصِّهَا، وهو مما ينطبقُ عليه المَثَلُ الشائعُ:(رُبَّ ضارةٍ نافعةٌ)، بل وينطبقُ عليه أكثر الحديثُ النبويُّ الشريفُ: (رُبَّ حاملِ فِقْهٍ إلى من هو أفْقَهُ منه)!. وعلى ذلك فَقَدْ تمَّ وصولُ النصِّ الأصليِّ لنا وفق (لُطْفٍ الهيٍٍّ) أو عنايةٍ سماويةٍ وألاَّ فأنَّ الملحمةَ كانت وما زالت مُحاربةً على كافةِ الأصعدةِ. لا يرغبُ الإنسانُ في أغلبِ الأحيانِ في أن يؤمنَ بوجودِ ملكٍ حكيمٍ قَدْ (رأى كلَّ شيءٍ) لأنَّهُ يُفَضِّلُ الملوكيةََ التي تأتي من الإنسانِ نفسِهِ لا من اللهِ ولو ذاق الوبالَ جرائَها، بل ويعجِبُهُ أن يُضفي صبغةً سماويةً على خياراتِهِ الخاصةِ. ولقد أدركَ الملوكُ هذه اللعبةَ في سلوكِ الناسِ، واستعملَهَا أفلاطونُ في ما سُمِّيَ (بالخِدَعِ الملوكيةِ) حيثُ اعتبرَ الفيلسوفَ حكيماً إلهياً ممَّا أدَّى إلى استمرارِ السيرِ بهذه الخدعةِ لتحكُمَ أثينا ألفَ سنةٍ (انظر ديورانت في قصة الفلسفة ـ 57) وأدركَتْها الكنيسةُ فَحَكَمَتِ الناسَ بالحقِّ الإلهيِّ قروناً طويلةً، وبَقيَتْ الفكرةُ في مضمونِهَا كما هي عند حُكَّامِ أوربا لمدَّةِ ألفِ سنةٍ كما يصرِّحُ ديورانت في نفسِ الصفحةِ. ومن جهةٍ أخرى استُخْدِمَتْ الفكرةُ ذاتُهَا عند ملوكِ الشرقِ والمنطقةِ الإسلاميةِ في ما سُمِّيَّ بالخلافةِ الإلهيةِ التي هي الوجهُ الآخرُ (للحقِّ المقدَّسِ) لدى الكنائسِ. وبالتدريجِ اكتشفَ العالَمُ أنَّ هذه الخلافةَ وهذا الحقَّ هو سببٌ رئيسٌ من أسبابِ البلاءِ أن لم يكنْ هو السببُ الوحيدُ. وهنا تكمِنُ واحدةٌ أخرى من الخصائصِ الفريدةِ للملحمةِ حيث تكشفُ عن معادلةٍ معكوسةٍ لهذه القضيةِ وتجعلُ الناسَ مخطئينَ في الحالتينِ: حالةِ قبولِهِم بهذا الحقِّ، وحالةِ رفضِهِم له. فالملحمةُ تؤكِّدُ أنَّ البلاءَ كلَّهُ هو في تزييفِ هذا الحقِّ وإعطاءِهِ للغيرِ بسببٍ من زيفِ الناس أنفسِهِم وحسب. وتوضيحُ ذلك: إنَّ الأصلَ هو أنَّه (حقٌّ الهيٌّ) بالفعلِ، ولكنَّه تحوَّلَ إلى (حقٍّ أنسانيٍّ). فالذين رضوا به زيَّفوا منه الصفةَ التي في المفردةِ (إلهيٍّ) لأنَّهم قبلوا الحُكَّامَ الذين ادَّعوا هذا الحقَّ زوراً، والذين رفضُوهُ بعدما ذاقوا الويلاتِ رفضوا منه كونَهُ (حقَّاً) أي المفردة الأولى. فهم في الحالتينِ يزيِّفونَ على أنفسِهِم ولا طريقَ لهم للخلاصِ من البلاءِ إلاَّ عندما يُطابقُ فِعْلُهُم شعارَهُم المرفوعَ، إذ يجبُ أن يبقى الحقُّ الإلهيُّ إلهياً ليكونَ حقَّاً كما يجبُ أن تبقى عبارةُ (الحق الإلهيِّ)عبارةً واحدةً من غير تجزئةٍِ. ولكن قَدْ يُقالُ: (مِنْ أين يمكنُ للمرءِ أن يتبيَّنَ الفرقَ بين من يمتلِكُ هذا الحقَّ فعلاً وبين من يدَّعيهِ زوراً؟). تجيبُ الملحمةُ على ذلك بأنَّ بيانَ أيَّةِ قضيةٍ إنَّما يخضعُ للتجربةِ. فالتجربةُ برهانٌ عمليٌّ على صحَّةِ أو خطأ أيِّ مُدَّعى. وبهذا تسبِقُ الملحمةُ الفكرَ الفلسفيَّ في وضعِ الأسسِ العلميةِ للمعرفةِ فتجعلُ المعرفةَ بكاملِهَا تخضعُ للتجربةِ. وهي بذلك تخالفُ الفلسفةَ وما نعرفُهُ عنها في نظرياتِ المعرفةِ مخالفةً كاملةً. وتوضِّحُ الملحمةُ خضوعَ هذه العمليةِ الخاصَّةِ بمعرفةِ الحقِّ الإلهيِّ وأصحابِهِ الفعليين والتفريقَ بينهم وبين المزيَّفينَ على النحوِ المنطقيِّ التالي: لمَّا كان هذا الحقُّ إلهياً ومنوطاً باختيارِ اللهِ لأشخاصٍ معيَّنين ليحكموا العالمَ فإنَّ الفارقَ بين هؤلاءِ الأشخاصِ وغيرِهِم هو كالفارقِ بينَ ما هو إلهيِّ وما هو بشريٍّ. فيصبحُ الأمرُ الآنَ يسيراً جداً لأنَّ الذين يمتلكونَ هذا الحقَّ يجب أن تكونَ لهم قُدراتٌ مختلفةٌ تماماً عن قُدراتِ الآخرينَ، فهُمْ يتحكَّمونَ بالموجوداتِ وإن كانوا محكومينَ من جهةٍ أخرى بطبيعتِهِم البشريةِ حيث يأكلونَ ويشربونَ ومن ثمَّ يموتونَ، بَيْدَ أنَّ لهم كلمةً نافذةً في الأشياءِ والطبيعةِ ولهم القدرةَ على الانتصارِ على الأشياءِ، وليس خضوعُهُم للحاجاتِ وللموتِ إلاَّ خضوعاً مؤقتاً الغايةُ منه التأكيدُ على إمكانيةِ هذا الإنسانِ في أن يمتلكَ ناصيةَ التَّحكُمِ في الأشياءِ من خلالِ ارتباطِهِ بالإلهِ ارتباطاً كاملاً يجعلُ اختيارُهُ جزءً من اختيارِ الإرادةِ الإلهيةِ ولا ينفصلُ عنها. فالتزييفُ يكمِنُ في هذا الانفصالِ من حيثُ أنَّ الموجوداتِ هي جميعاً خَلْقُ اللهِ ومشمولةً بنفسِ القانونِ. فالخروجُ على هذا القانونِ يُدخَلُ المرءَ تحت سلطتِهَا والدخولُ في اختيارِهِ يُخرجُهُ من سلطتِهَا. إذنْ.. فالمَلِكُ الذي يستمِدُّ سلطتَهُ من اللهِ يمكنُ كشفُهُ بالتجربةِ حينما نجدُهُ قادراً على التحكُّمِ في الأشياءِ بما فيها الموتِ نفسِهِ وإن كانَ ظاهرياً بالنسبةِ لنا يموتُ كالآخرين . واضحٌ أنَّ مِثْلَ هذا الاختبارِ قَدْ جرى تحقيقُهُ على يَدِ المسيحِ (ع) خلال أحياءِهِ الموتى، فسلطتُهُ إذن هي سلطةٌ إلهيةٌ.. ولكنَّ ادِّعاءَ الآخرينَ لهذه السلطةِ هو أكذوبةٌ حينما لا يقدرونَ على إحياءِ الموتى. بَيدَ أنَّ هذه التجربةَ متكرِّرةٌ. فالملوكُ الإلهيون كانوا دوماً قادرينَ على إحياءِ الموتى. فلنلاحِظُ واحدةً من التجاربِ التي يعرضُهَا القرآنُ الكريمُ في زَمَنٍ مرافقٍ لزَمَنِ جلجامشَ من تاريخِ العراقَ القديمِ، وهي تجربةُ إبراهيمَ (ع) مع المَلِكِ (نمرود). فَقَدْ ذُكِرَتْ تلك المحاججةُ بين الملكِ الحقيقيِّ وبين الملكِ المزَّيفِ في النصِّ القرآنيِّ الآتي: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:258). وبالطبعِ.. فإنَّ لنا تفسيرَنَا الخاصَّ لهذه المحاججةِ، وهو تفسيرٌ مختلفٌ عما زعَمَهُ عمومُ المفسِّرينَ. فقد زَعَمَ الاعتباطُ اللغويُّ أنَّ (الذي آتَاه اللهُ المُلْكَ) هو الملِكُ نمرودُ، وأنَّ الضميرَ يعودُ إليهِ. فإذا كان اللهُ هو الذي آتاه المُلْكَ فبأيِّ حقٍّ إذن يحاجِجُهُ إبراهيمُ؟. لَقَدْ أصبح إبراهيمُ بهذا على الباطلِ!. بينما الضميرُ يعودُ في الواقعِ على إبراهيمَ إذ هو المذكورُ قبلُهُ بالاسم. وخلاصةُ القصَّةِ من منظورنا: إنَّ إبراهيم (ع) ادَّعى أنَّه هو المَلِكُ الحقيقيُّ وأنَّ نمرودَ مَلِكٌ مزيَّفٌ، لأنَّ الآياتِ الأخرى ذَكَرَتْ أنَّ اللهَ آتى إبراهيمَ المُلْكَ وآتاه قيادةَ الناسَ (أي آتاه الإمامةَ أو الحُكْمَ) حيثُ قَالَ تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة:124) وقَالَ تعالى أيضاً: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (النساء:54) والدليلُ الذي ساقَهُ إبراهيمُ ليُبرهِنَ فيه أنَّه هو الملِكُ الفعليُّ هو الدليلُ الذي ذكَرْناهُ آنفاً. فالذي آتاه اللهُ الملْكَ يقدِرُ أن يفعلَ ما لا يقدِرُ عليه الآخرُ، وبالتالي فإنَّ إبراهيمَ قَالَ: (ربي الذي يحيي ويميت)، ومعنى ذلك أنَّهُ يقولُ: (إنَّني أفعلُ فعلَهَ"أي فِعلَ الله" لأنَّ مُلْكي بأمرِه خلافًا لمُلْكِكَ). فقال نمرودُ: (أنا أحيي وأُميتُ) أيضاً. وَقَدْ ذُكِرَ في المأثورِ أنَّ إبراهيمَ سألَهُ: (وكيف تُحيي وتُميتُ؟)، فقال: (أعمِدُ إلى رجُلينِ حَكَمَ عليهما القضاءُ بالموتِ فأوقِّعُ على أحدِهِمَا وأعفوَ عن الآخرِ فأكونُ بذلك قَدْ أَمَتُّ الأوَّلَ وأحييتُ الثاني). وبالطبع.. فإنَّ السفهاءَ يصدِّقونَ بفذلكَةِ الملكِ المُزيّفِ هذه، ولذلك قَالَ إبراهيم (ع): (كلاَّ.. إن كنتَ صادقاً فأحيي الذي ماتَ!)، عندئذ سَكَتَ هذا الملكُ.. فقال إبراهيم: دِع عنك كلَّ هذا (فإنَّ اللهَ يأتي بالشمسِ من المشْرِقِ فأتِ بها من المغربِ) ـ فبهت نمرودُ. ومعنى ذلك أنَّ إبراهيم يقولُ: ( أنَّني قادرٌ على أن آتيَ بها من المغرِبِ)، وألاَّ فلا فائدةَ من كلِّ ما من كلِّ ما كانَ قَدْ قالَهُ إبراهيمُ. فإنَّ نمرودَ لا يَنْكِرُ أنَّ اللهَ يُحيي الموتى أو يغيِّرُ الفُلْكَ إذا شاءَ. فالمحاجَجَةُ ليست في اللهِ، بل في الربِّ الذي آتى أحدهما المُلْكَ. فالقادرُ على أن يفعلَ أفعالَ الربِّ هو المَلِكُ، والذي لا يقدِرُ على ذلك فليس بمَلِكٍ حقيقيٍّ. ولكن إبراهيم (ع) نَسَبَ الأفعالَ إلى اللهِ تعالى تأدُّبَاً وفَهِمَ نمرودُ المقصودَ. ولما كانَ نمرودُ لا يتمتَّعُ بهذا الأدبِ (إذ لو كان بهذا التواضعِ الذي لدى إبراهيم (ع) لله لما جَرَتِ المحاجَجَةُ أصلاً) فَقَدْ نَسَبَ الأفعالَ لنفسِهِ مباشرةً. ومعنى ذلك أنَّ عمليةَ أحياءِ الموتى وإعادةِ الشمسِ وفقَ النصِّ قَدْ تمَّتْ عملياً، لأنَّ المحاجَجَةَ تسقِطُ عن كلِّ اعتبارٍ ما لم تكنْ معها تجربةٌ عمليةٌ بالفعلِ. فإنَّ كلَّ إنسانٍ بمقدورِهِ أنْ يدَّعي ما يشاءُ بشأنِ ربِّهِ الذي آتاه المُلْكَ، ونمرودُ يدَّعي أنَّ ملكَهُ هو الآخرُ إلهيَّ المصدرِ. فالناجحُ في المحاجَجَةِ هو الذي يأتي فعلاً بالشَّمسِ من المغربِ ويُحيي الموتى. فليس نمرودُ غبياً إلى هذا الحَدِّ فيُبْهِتَ لمجرَّدِ أنَّ إبراهيم (ع) يعدِّدُ قدراتِ الله!. متى جاءتْ هذه الآيةُ القرآنيةُ؟.. وأين؟. لَقَدْ جاءَتْ خلالَ سياقاتٍ متَّصلةٍ تتحدَّثُ عن المُلْكِ ومَنْ هو الأحقُّ به، وتَمَّ التأكيدُ خلالَ ذلك على الحرِّيةِ الاختيارِ للناسِ بعد قصَّةِ (طالوتَ). فطالوتُ لم يعيِّنْهُ اللهُ مَلِكَاً مباشرةً، وإنَّما طَلَبَ الملأُ من بني إسرائيلَ عِبْرَ نبيٍّ لهم أنْ يبعثَ اللهُ لهم مَلِكَاَ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (البقرة: من الآية246) فلمَّا تمَّ تعيينُ طالوتَ ملِكَاً رَفَضَهُ الجمهورُ بالرغم من أنَّ اللهَ آتاه (بَسْطَةً في العِلْمِ والجِسْمِ). وهي نفسُ الصفاتِ التي ارتبطتْ بجلجامشَ في الملحمةِ، ومعلومٌ أنَّها الصفاتُ الكاملةُ الخاصَّةُ بالقيادةِ. وتُظْهِرُ آياتُ قصَّةِ طالوتَ غباءَ الملأِ المُنقطعِ النظيرِ. فهُمْ يطلبونَ من اللهِ أن يعيِّنَ لهم ملِكَاً ولكنَّهُم يريدونَ الذينَ يختارونَهُ هم، ومعنى ذلك أنَّهم يُحاولونَ قلْبَ المعادلةِ. فالمألوهُ يصبحُ إلهاً والإلهُ يصبحُ مألوهاً، وهو تصرُّفُ أحمقٌ حتى لو حَدَثَ بين المخلوقِ والمخلوقِ. فهل يُعقلُ أن أطلبَ منك النصيحةَ واشترِطَ أن تنصحني بكذا؟.. ستعتَبِرُ ذلك تجاهلاً مني لعقلِكَ ومكانتِكَ ولا تفسيرَ له سوى الحُمْقِ أو التَجبُّرِ. لَقَدْ كان الملوكُ ولازالوا يدَّعونَ هذا الحقَّ بالانتسابِ إلى المُلْكِ الإلهيِّ بصورةٍ أو بأخرى: (حمورابي يتسلَّمُ الشرائعَ من مردوكَ)، وملوكٌ آخرونَ يضعُ (إنليلُ) التيجانَ على رؤوسِهِم، وقياصرةٌ استمدُّوا المُلْكَ من الحقِّ المقدَّسِ، وخُلفاءٌ أخذوا الحقَّ المقدَّسَ لكونِهِم أعمامَ النبيِّ (ص) حيث قَالَ شاعرُهُم: أنَّى يكونُ وليسَ ذاك بكائنٍ لبني البناتِ وراثةُ الأعمامِ إنَّ هذا التمهيدَ يسهِّلُ لنا مهمَةَ الكشْفِ عن شخصيةِ جلجامشَ وَفَكَّ بعضِ مرموزاتِ ومقاصدِ الملحمةِ وغاياتِهَا وإزالةِ التعارُضِ من أعمدةِ المديحِ والذَّمِ لشخصيةِ جلجامشَ، حيثُ نجِدُ أنَّ هذا الذمَّ قَدْ وَرَدَ على لسانِ الحاقدينَ والحاسدينَ الذين يريدونَ أن يحكمَهُم الطاغوتُ بدلاً من الحاكمِ الإلهيِّ الفعلي.. الطاغوتُ الذي يدَّعي الأحقِّيةَ بالمُلْكِ من غيرِ أن يأتيَ بدليلٍ عمليٍّ سوى المزيدِ من الفَقْرِ والمصائبِ.. الفقرِ الماديِّ والروحيِّ ومصائبِ الحروبِ والمجاعاتِ. ... القيصر $ | |
|
| |
{ القيصر }
عدد المساهمات : 311 النقاط : 517 الشُّهرة : 3 تاريخ التسجيل : 20/03/2011 العمر : 35 المكان : سوريا - حمص - مقيم في السعودية الجنس : المزاج : اعتباراً من الغد
| موضوع: رد: ملمحمة جلجامش البابلية السبت 25 يونيو 2011, 9:23 pm | |
| المقطع الثاني والعشرون الرَّمْزيَّةُ في الأثْلاثِ من العمود الأول: 43. من ذا الذي يضارِعُهُ في الملوكيةِ 44. مَنْ غيرُ جلجامشَ مَنْ يستطيعُ أن يقولَ "أنا الملكُ"؟ 45. ومَنْ غيرُهُ من سُمِيَ جلجامشَ ساعةَ ولادتِهِ؟ 46. ثلثاهُ إلهٌ وثلثُهُ الباقي بشرٌ مِن هنا يشعُرُ الشُرَّاحُ، بل وعمومُ القرَّاءِ أنَّ جلجامشَ كائنٌ خياليٌّ لا حقيقةَ له، إذ كيف يكونُ المرءُ بثلاثةِ أثلاثٍ: ثلثان إلهٌ وثلثٌ بَشَرٌ؟. لكنَّ هذه العبارةَ تنطوي على ما يميِّزُ الملحمةَ عن غيرِهَا في نظرتِهَا للإنسانِ. فلم تَسبْقْ الفلسفاتِ في ذلك، بل وَضَعَتْ يدَهَا على التقسيمِ الفعليِّ للإنسانِ فجاءَتْ بالحلِّ الذي عَجَزَتْ عنه الفلسفةُ ولا زالت عاجزةً. فالملحمةُ لا تقولُ أنَّ جلجامشَ وحدَهُ بثلاثةِ أجزاءٍ، بل كلَّ الناسِ هم بثلاثةِ أجزاءٍ، والفارقُ أنَّ هناك جزءان في الإنسانِ يمكنُ أن يكونا إلهيينِ أو إنسانيينِ، ولكنَّهما في جلجامشَ إلهيين، وإن الطريقَ مفتوحٌ أمام الجميعِ ليكونوا كذلكَ وإن تأخَّروا عن تلك المرحلةِ فيما بعدُ ساعةَ الولادةِ. ولم ينتبهْ إلى هذا التقسيمِ أحدٌ من مؤسِّسي الفكرِ الأخلاقيِّ أو غيرَهُم باستثناء الكُتُبِ السماويةِ، بَيْدَ أنَّ الشُرَّاحَ قَدْ شوَّهوا الفكرةَ في النهايةِ فلا نجدُ في المشهورِ من تقسيمِ الإنسانِ في الدِّينِ المُنتشِرِ بيننا سوى التقسيمِ الثنائيِّ، وهو أنَّ الإنسانَ (روحٌ وبَدَنٌ). ولا يستطيعُ هذا التقسيمُ تفسيرَ الاختلافِ الأخلاقيِّ والفكريِّ بين الناسِ، لأنَّ طبيعةَ الروحِ واحدةٌ، وكذلك البدنِ فإنَّه من ترابِ الأرضِ. بينما نلاحظُ في القرآنِ الكريمِ مثلاً أنَّ هناك فعَّاليتينِ في الإنسانِ عدا البدنِ هما (العقلُ) والذاتُ الآمرة و(القلبُ). ومن هنا نجِدُ أنَّ الإنسانَ عبارةٌ عن ذاتٍ شاعرةٍ بوجودِها (أي نفسٌ). وهذا الكيانُ الذي هو (النفسُ) يتألَّفُ من جوهرِ الذَّاتِ (القلبِ)، وأداتُهَا التي تفكِّر بها هي (العقلُ)، وهما يقومانِ بالعنصرِ الثالثِ (البدنِ). فإذا كانت الذَّاتُ في جوهرِهَا نقيةً طيِّبةً أَمَرَتِ العقلَ بحسابِ الأشياءِ بطريقةٍ (حرَّةٍ) من غيرِ مؤثِّراتٍ فتكونُ حساباتُهُ صحيحةً، وإذا كانت مَشوبَةً بالأعراضِ المرضيةِ للنفسِ كالحسدِ والغيرةِ وحبِّ الذَّات جاءتْ حساباتُ العقلِ مختلفةً بحسَبِ النسبةِ والتناسُبِ. ومن هنا فَشَلَت النظرياتُ التي تتحدَّثُ عن (المعرفةِ) الإنسانيةِ لأنَّها أَهْمَلَتْ العنصرَ الثالثَ (الذَّاتَ الآمرةَ).. فَشَلَتْ في تحديدِ قدرةِ العقلِ على المعرفةِ من أرسطو إلى عمانوئيل كانط مروراً بالاتجاهاتِ العقليةِ المحضةِ لجميعِ التياراتِ والمذاهبِ بما في ذلك المعتزلةِ ومن تابَعَهُم. والواقعُ أنَّ القرآنَ الكريمَ واستمراراً للكُتُبِ السماويةِ قَدْ أكَّدَ على هذا التلازمِ بين العناصرِ الثلاثةِ، وأوضحَ اختلافاتُ المجموعاتِ بناءً على هذا التقسيمِ. ويتلخَّصُ الحلُّ الفلسفي الذي يقدِّمُهُ بضرورةِ تحريرِ العقلِ من قيودِ الذَّاتِ الآمرةِ وذلك بتخليصِهَا من الأمراضِ والعللِ التي تعاني منها. ومن هنا نلاحِظُ أنَّه ميَّزَ بين الكفرِ والشُرك في العبادةِ تمييزاً شديداً. فالكفرُ موقفٌ من مواقفِ الذَّاتِ، ولذلك لا يرجِعُ الكافرُ إلى الأيمانِ. فهو (أي الكُفرُ) موقِفٌ أخلاقيٌّ لا عقليٌّ. قَالَ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (البقرة:6) لأنَّ الذَّاتَ أرادتْ هذا الطريقَ تحديداً، وبالتالي فإنَّ المناقشةَ العقليةَ مع هؤلاءِ لا فائدةَ منها. فعقولُهُم مأمورةٌ بأنِْ تحسِبَ الأشياءَ بطريقةٍ محدَّدةٍ خدمةً للذَّات. أما الشركُ في العبادةِ فإنَّه موقفٌ عقليٌّ محضٌ، ولذلك أمكنَ رجوعُ المُشرِكُ إلى الأيمانِ، لأنَّ الحساباتِ العقليةَ كانت خاطئةً فلم تحصلْ الذَّاتُ على (العِلْمِ) المُفيدِ لها. فلاحِظْ كيف يأمِرُ اللهُ تعالى بأسماعِ المُشرِكِ كلامَ اللهِ لأجلِ أن تصِلَهُ المعرفةُ فيؤمنُ: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (التوبة:6) لَقَدْ أوضَحْنَا هذه المسائلَ وعلاقاتِهَا بالمجموعاتِ في بعضِ مؤلفاتِنا السابقةِ: ومن هنا تؤكِّدُ الملحمةُ هذا التقسيمَ، فأنَّ الثلثينِ الخاصَّين بالنفسِ إذا تحرَّرا من الأمراضِ والعللِ النفسيةِ أصبحا إلهيينِ ولم يبقَ من الإنسانِ جزءٌ بشريٌّ سوى البدَنِ. (ثُلثَا جلجامشَ إلهٌ وثُلثُهُ بَشَرٌ). الترجمةُ الصحيحةُ هي ثلثاهُ إلهيٌّ (صفةٌ أو نسبةٌ). وإذا كان الأمرُ كذلك فإنَّ هذا الوصفَ ينطبقُ على كلِّ نبيِّ أو رسولٍ أو وليٍّ تحرَّرت ذاتُهُ بصورةٍ كاملةٍ من العللِ النفسيةِ. ومعلومٌ أنَّ هذا التحرُّر لا يحدِثُ لمجرَّدِ ادِّعاء المرءِ ذلك، فإنَّ لهذا التحرُّرِ قاعدةً عمليةً هي التسامي على عشتارَ (الحياةِ الدنيا) باعتبارِهَا صورةً مشوَّهةً للحياةِ الحقيقية والبحثُ عن الحياةِ الأبديةِ. ففي هذه الحالةِ يتحرَّرُ العقلُ، ويحصِلُ المرءُ على (الحكمةِ) بعدما تكونُ الحياةُ الدنيا لا قيمةَ لها عندَهُ بالمرَّةِ، أو كما عبَّر عن ثمنِهَا الإمامُ عليٌّ (ع) بقوله: (لا تساوي عندي عفطةَ عنزٍ)!!. ثمَّةُ تشابهٌ في صورةِ الذين تساموا على عشتارَ، فقد اتَّصفوا بنفسِ الصُفاتِ الثلاثةِ: (القوَّةِ البدنيةِ ـ المعرفةِ ـ التواضعِ). وهذه الصفاتُ التي تتفرَّعُ عنها صفاتٌ أخرى هامَّةٌ هي اللائقةُ بالقيادةِ. فجلجامشُ هو الوحيدُ الذي سماه آنو مَلِكَاً: أَلَمْ تَتَحَرَّشي بجلجامشَ المَلِكِ؟ ومن هنا لم يكنْ لأحدٍ أن يدَّعي الملوكيةَ سواه. فلنلاحِظَ هذه الديباجةَ من العمودِ الأوَّلِ التي تتحدَّثُ عن جلجامشَ: هو الذي رأى كلَّ شيءٍ فَغَنِّي بذكْرِهِ يا بلادي هو الذي عَرَفَ جميعَ الأشياءِ وأفادَ من عِبَرِهَا وهو الحكيمُ العارفُ بكلِّ شيءٍ لَقَدْ أبْصَرَ الأسرارَ وكَشَفَ عن الخفايا المكتومةِ وجاءَ بأنباءِ ما قَبْلَ الطوفانِ وحينما يستمرُّ هذا العمودُ بتوجيهِ الأنظارِ إلى العلاماتِ الماديةِ الماثلةِ للعيانِ من أعمالِهِ في أكثرِ من ثلاثينَ سطراً يعودُ إلى خصائصِهِ الذاتيةِ قائلاً: إنَّه البطلُ سليلُ أوروك إنَّه المُقَدَّمُ في الطليعةِ إنَّه هو الذي فَتَحَ مجازاتِ الجِبالِ وعَبَرَ البحرَ المحيطَ إلى حيثُ مطلعِ الشمسِ لَقَدْ جابَ جهاتِ العالمِ الأربعِ وبجهدِهِ استطاعَ الوصولَ إلى أوتو ـ نوبشتم القاصي من ذا يضارِعُهُ في الملوكيةِ بلى إنَّ كاتبَ الملحمةِ رجُلٌ مُلْهَمٌ فهو يدركُ بحدَسِهِ العميقِ أنَّ هناك قرناً اسمُهُ القرنُ العشرون ستتطوَّر فيه العلومُ ويتمُّ فيه العثورُ على الملحمة ولكنَّ أهلها سيعدُّونها أسطورةً وسيزيِّفون الوقائعَ وسيفصلون بين جلجامشَ البطلِ وجلجامشَ الحكيم، لذلك أعطانا عنواناً آخرَ لصندوقٍ فيه أدلَّةٌ وافيةٌ عن أعمالِهِ، لكن المؤسف أنَّ أحداً ما لم يبحثْ عن هذا الصندوقِ: ابحثْ عن اللوحِ المحفوظِ في صندوقِ الألواحِ النحاسيِّ وافتح مغلاقَهُ المصنوعِ من البرونزِ واكشفْ عن فتحتِهِ السريَّةِ تناولْ حَجَرَ اللازورد وأجهر بتلاوتِهِ ستَجِدُ كم عانى جلجامشُ من النَصَبِ وفاقَ جميعَ الحُكَّامِ إِزَالَةُ التَعَارُضَ بَيْنَ العَمُوَدْينِ الأوَّلِ والثَانِي مِنَ اللَّوْحِ الأوَّلِ لَقَدْ مَجَّدَ العمودُ الأوَّلُ جلجامشَ في ما يقاربُ من (48) سطراً، وأستمرَّ الثناءُ عليه وذِكْرُ أعمالِهِ في ثمانيةِ سطورٍ أخرى من العمودِ الثاني ثمَّ بَدأَ ذمُّهُ وذِكْرُ مثالبِهِ ممَّا أدَّى إلى أن يعِدَّهُ الشُرّاح تغيُّراً في سلوكِهِ فيما بعدَ السطرِ الثامنِ. ولكنَّ الأخذَ بآراءِ الشُرَّاحِ فيه أشكالٌ واضحٌ. فعلاوةً على كونِهِ مخالفاً للسِّماتِ الثابتةِ للشخصيةِ في السردِ الأدبيِّ الذي أوضَحْنَاهُ في فَقَرَةٍ سابقةٍ، فإنَّ العمودَ الأوَّلَ لم يصِفْهُ بالقوَّةِ الجسديةِ وشدَّةِ البطشِ فقط حتى يمكنُ أنْ نعتقِدَ أنَّه استغَلَّ هذه القوَّةَ في إذلالِ رعاياهُ، ودقَّ الطبولَ لاستخدامِهِم لإغراضِ السُخْرَةِ على حدِّ تعليقِ (طه باقر). بل وصفَهُ العمودُ الأوَّلُ بالحكمَةِ والمعرفَةِ الإلهيةِ والإطلاعِ على الأسرارِ. وأَكْثَرَ السَّرْدُ من ذلك، بل ووصَفَهُ بعكسِ ما زعَمَهُ الشُرَّاح بكونهِ محبَّاً للرعيَّةِ ومدافعاً عنهم ويحمِيْهِم من الأعداءِ ويتقدَّمَهُم في الحربِ. وهي صفاتُ رجُلٍ هو الغايةُ في الصلاحِ، وهو الغايةُ من الحكمةِ. لاحِظْ هذه السطورَ المتفرِّقَةَ: ـ إنَّه المُقَدَّمُ في الطليعةِ ـ وهو كذلك في الخَلْفِ ليحميَّ أخوتَهُ وأقرانَهُ ـ إنَّه المَظَلَّةُ العُظْمى ـ حاميَّ أتباعَهُ من الرجالِ ـ جلجامشُ المُكْتَمِلُ الجلالِ ـ بعدَمَا خَلَقَ الإلهُ جلجامشَ وأحَسْنَ الإلهُ العظيمُ خَلْقَهُ ـ حَبَاهُ شَمشُ بالحُسْنِ ـ وخَصَّهُ آدَدُ بالبطولةِ ـ جَعَلَ الأربابُ صورتَهُ كاملةً تامَّةً ـ فَنَقَشَ في نُصْبِ الحَجَرِ كلَّ ما عاناه وخَبِرَه إذن كان جلجامشُ في المقدِّمَةِ وفي الخَلْفِ .. فهو (مُكِرٌّ مُفِرٌّ مُقْبِلُ مُدْبِرٌ معاً كَجَلْمودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ) ، وكان يعملُ بنفسِهِ من أجلِ إيصالِ تاريخِهِ لنا. فَقَدْ نَقَشَ على الحَجَرِ كلَّ ما عاناهُ وخَبِرَهُ. وإذنْ.. ليس صحيحاً ما قالهُ (جورج رو) في كتابه عن تاريخ العراق القديمِ: (أُلِّفَتْ قصيدةٌ طويلةٌ مَزَجَْتْ قصصاً سومريةً بموادٍ جديدةٍ فجاءتْ ملحمَةُ جلجامشَ العظيمةُ التي وصَلَتْنا كاملةً تقريباً بفضْلِ الصِدْفةِ وحدِهَا!) العراق القديم(167 ـ 168). فالصِدْفَةُ وحدُهَا لا تنتجُ ألواحاً متعدِّدَةَ النُسَخِ والأماكنِ بمختلفِ الأعماقِ، وإنَّما هي إرادةُ أقوامٍ أحبُّوا جلجامشَ وأرادوا تخليدَ أعمالِهِ ووصلتنا بفَضْلِ عنايةِ السَّماءِ لكثرَةِ الحاقدينَ والحاسدينَ له. هو الذي رأى كلَّ شيءٍ فغنِّي بذكْْرِهِ أيَّتُها البِلادُ هو الذي رأى الأعماقَ والأسرارَ وخصَصْتُهُ بمديحي إذنْ.. فثمَّةُ تناقض بين العمودين يستلزمُ إعادةَ النظرِ والتدقيقِ في مضمونِ هذا الذَمِّ الواردِ في العمودِ الثاني. فلنلاحِظ أينَ وكيفَ حَدَثَ الانتقالُ من الثناءِ إلى الذمِّ. لَقَدْ حَدَثَ في السطر التاسع تحديداً. فلنضَعَ هذا السطرَ في الوسطِ ونبدأُ من الخامسِ مثلاً إلى السادسِ عشر: 5ـ ثلثاهُ إلهيٌّ وثلثُهُ الآخرُ من البشرِ 6ـ وهيئةُ جسمِهِ مُخيفةٌ كالثَّورِ الوحشيِّ 7ـ وفَتْكُ سلاحِهِ لا يُضاهيهِ شيءٌ ولا يصدُّهُ شيءٌ 8ـ وعلى ضَرَباتِ الطبلِ تستيقظُ رعيتُهُ 9ـ لازمَ أبطالُ (أوروكَ) حجراتِهِم ناقمينَ مكفهرينَ 10ـ لم يتركْ جلجامشُ إبناً طليقاً لأبيهِ 11ـ لم ينقطعْ عنفُهُ عن الناسِ ليلَ نهارْ 12ـ أهذا جلجامشُ راعي أوروكَ المسوَّرة؟ 13ـ أهو راعينا القويُّ الجميلُ الكاملُ الحكمةِ؟ 14ـ لم يتركْ جلجامشُ عذراءَ طليقةً لأُمِّها 15ـ أو ابنةَ مقاتلٍ أو خطيبةَ بطلٍ 16ـ أخيراً استمعَ الأربابُ لاستغاثَتِهِم وشكواهم لا بدَّ إنَّك أخي القارئ قَدْ فطِنْتَ إلى الحلَِّ من خلالِ عرضِنَا للسطورِ كما جاءَتْ حيثُ انتهتْ بعبارةِ: (أخيراً أستمعَ الأربابُ لاستغاثَتِهِم وشكواهم)!. إذنْ.. فهذا الوصفُ هو شكوىً مقدَّمةٌ ضدَّ جلجامشَ.. ومِنْ مَنْ؟.. بالطبعِ من المجموعةِ المذكورةِ قبلَ بدءِ الذمِّ، وهي مجموعةُ أبطالِ أوروكَ الناقمينَ الذين لازموا حجراتِهِم مكفهرين!. وَقَدْ جاء السطرُ الثامن في النصِّ الأكدي بترجمةٍ أخرى هي: (رعيته مجبرةٌ على دخولِ شركِهِ) ـ أي دخول طاعته. فالسطرُ الثامنُ لا يحملُ معنىً للذمِّ، إذ جاءت الصفةُ (مجبرة) على أسمِ المفعولِ، فالرعيةُ مجبرةٌ على دخولِ طاعتِهِ، فهي مُجْبَرَةٌ لكنَّهُ لم يجبرْها. وهنا فرقٌ كبيرٌ، إذ يمكن أن تكونَ مُجبرةً على الطاعةِ لأنَّهُ مثالٌ حسنٌ للعدلِ والمعرفةِ والحكمةِ والتواضعِ وليس فيه مغمزٌ لأحدٍ من الناسِ. وبصفَةٍ عامةٍ فإنَّ البيتَ في السطرِ الثامنِ فيه مديحٌ لا ذمٌّ، وإيقاظُهُم على صوتِ الطبولِ لا يفيدُ الإكراهَ، بل القيامَ من الفجرِ للعملِ والعبادةِ، فمن شاءَ فَعَلَ ومن لم يشأ لم يفعلْ. ولكنَّ هذه الطريقةَ تكشِفُ المزيَّفين مثلَ (الثورِ النائمِ) الذي قَتَلَ بشخيرِهِ المئاتِ، فمن الطبيعيِّ أن يغتاظَ الأبطالُ. فالأبطالُ تعبيرٌ يُرادُ به القادةُ المحاربون والوجهاءُ من مَنْ يعبِّرُ عنه القرآنُ الكريمُ دوماً (بالملأ الذين استكبروا). فلاحِظْ السطرَ التاسعَ الذي هو الفاصلُ بين شطرِ المديحِ وشطرِ الذمِّ (اغتاظتْ أبطالُ الوركاء في أماكنهم) ـ حسب النصر الأكدي أو (ولازَمَ أبطالُ أوروكَ حجراتََِِهِم ناقمينَ مكفهرين).. فهذه العباراتُ تحملُ الدلالةَ على وجودِ جماعةٍ منعزلةٍ معترضةٍ على جلجامشَ بقيادةِ الأبطالِ الذين بَلَغَ بهم الغيظُ مبلغَهُ. وهي حالةٌ عامَّةٌ متكرِّرةٌ فإنَّ حَسَدَ عليَّةِ القومِ للصالحينَ هي قضيةٌ معلومةٌ خاصةً إذا اجتمعَتْ فيهم البطولةُ والعدلُ والمعرفةُ، وهي خصائصٌ من النادرِ جداً أن تجتمعَ في شخصٍ واحدٍِ، وعندئذٍ يكسبون محبَّةَ الناسِ وتذوبُ أسماءُ المتبجِّحينَ والمدَّعينَ. ولا أظنُّ القارئُ الكريمُ يعجزُ عن تَذَكُّرِ أمثلةٍ صارخةٍ لمثالِ هؤلاءِ على مُرِّ التاريخِ. إذ تذوبُ الأسماءُ اللامعةُ البرَّاقةُ وينساها الشعبُ المولِعُ بذكْرِ البطلِ الذي يجمعُ بين البطولةِ والعدلِ والمعرفةِ والتواضعِ، فيفوقُ الأبطالَ جميعاً ولذلك ينمو الحقدَ في قلوبِهِم على الرجُلِ الصالحِ. ألا ترى أنَّ الحقدَ ظَهَرَ أخيراً بالفتنةِ التي قادَهَا ثورٌ من الثيرانِ النائمةِ يوجِّهُها بشخيرِهِ، وهو ما أوضحناهُ سابقاً؟. إذنْ.. فالسطورُ التي بَعْدَ هذا السطرِ التاسعِ هي شكايتُهُم، وهي من أقوالِهِم لا من أقوالِ كاتبِ الملحمةِ عن جلجامشَ. وهو لم يذكرْ عبارةً مثل (يقولون) لأنَّ هذا واضحٌ جداً بعد إن كَالَ له المديحَ مقدَّماً وأنهى الفقراتِ بالتأكيدِ على أنَّها شكواهُم ثم أوقعَهُم في سوءِ أعمالِهِم ونواياهُم حينما جَعَلَ أنكيدو وهو المخلوقُ الذي اقترحوه ـ جعله يصبحُ نصيراً لجلجامشَ. وأخيراً أوضَحَ أمرَهُم باقتراحِ عشتارَ لخَلْقِ الثورِ وأنهى الأمرَ بقَتْلِ الثورِ حيثُ أعادَ وصفَ الجماهير المُحِبَّةِ لجلجامشَ وهي تهتفُ باسمه واسم أنكيدو، وابتأستْ عشتارُ حيثُ (لم تَجِدْ من يواسيها ويُفْرِحُ قلبَهَا).. فماذا تريدُ من الكاتب أوضحَ من ذلك؟. ومع ذلك سأوضِّحُ هذا الأمرَ: لَقَدْ جَرَتْ العادةُ على إلغاءِ لفظِ (يقولُ) أو (يقولون) من الكتاباتِ والمحاوراتِ عموماً في كلِّ مكانٍ وزمانٍ لظهورِ المَقولِ في النصِّ ظهوراً واضحاً، بل وَرَدَ هذا في القرآن الكريم في مواضعٍ كثيرةٍ منها مثلاً: (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ) (الأنبياء:36) معلومٌ أنَّ عبارةَ: (أهذا الذي…) هي من قولِهِم لا من قولِ اللهِ تعالى، بل نقله اللهُ تعالى بأمانةٍ تامَّةٍ عنهم، فَلَمْ يَحْتَجْ لأنْ يأتيَ بالفعلِ (يقولون) قبلَهُ، لأنَّهُ واضحٌ. وهذا القولُ منهم هو جملةٌ وضعها بين جملتين هما: قولِهِ تعالى وإخبارِهِ عنهم. فكأنَّه في الملحمةِ إذ قَالَ: (لازمَ الأبطالُ حجراتِهِم مكفهرين ناقمين) أنتظر المتلقي أقوالَهُم إذ يتساءلُ لماذا هم ناقمون ومكفهرون ما دام جلجامش بهذه الصفاتِ التي لا مثيلَ لها؟. فجاءَهُ الجوابُ: (لم يتركْ جلجامشُ…) وبدأ الكاتبُ بذكر أقوالهم. ولما كانت تلك الأقوالُ تؤكِّدُ صفاتِهِ السابقةَ فقد أثبتها الكاتبُ للبرهنةِ على صحَّةِ ما ذَكَرَهُ في العمودِ الأوَّلِ، وليؤكِّد من جهةٍ أخرى بطلانَ هذه الشكاوى لأنَّ الأنانيةَ والحسدَ ظاهرةٌ فيها. فلنلاحْظْ إذن أقوالَهُم في هذه الشكوى في النصِّ الأكديِّ، إذ مر عليك النصُّ البابليُّ: 12ـ لم يتركْ جلجامشُ ولداً لأبيهِ 16ـ لم يتركْ جلجامشُ بنتاً لأمِّها 17ـ أو ابنةَ بطلِ أو زوجةَ مُحارِبٍ ماذا نفهمُ من هذه الشكوى؟ بالطبع لا يمكنُ أن نفهمَ منها الاعتداءَ الجنسيَّ لوجود الذكورِ ولا نفهمُ منه عمليةَ تجنيدٍ إجباريٍّ لوجودِ البناتِ في النصِّ. لَقَدْ حدَّدَ النصُّ لمن لا يتركُهُم جلجامشُ… الولدَ لأبيه والبنتَ لأمِّها وابنةَ المُحاربِ لأبيها وزوجةَ (خطيبةَ) البطلِ لحبيبها. هل يُعْقَلُ أنَّه اعتدى على الجميع، حتى لو اعتبرنا الكاتبَ تعجبُهُ المبالغةَ والتهويلَ؟ فلماذا قَرَنَ التَرْكَ بالأبِ والأمِّ والخطيبِ والزوجِ؟ لَقَدْ فَصَمَ جلجامشُ بحبِّهِ وشخصيتِهِ الروابطَ الاجتماعيةَ بما في ذلك علاقةَ الأبطالِ مع أهاليهم. وهذا هو المقصودُ، إذ يدورُ الحديثُ كلُّهُ عن البطلِ والمُحاربِ، إذ هو أَّما أبٌ أو زوجٌ أو خطيبٌ. فهؤلاءِ لا همَّ لهم سوى أن تُمَجِّدَ النساءُ والشبَّانُ بطولاتِهِم ويَذْكُرُهُم الفتيانُ في محافلِهِم. وحينما ظَهَرَ جلجامشُ مرتفعاً فوقَ الجميعِ فقد حطَّمَ أحلامَهُم وأركسَ أنانيتَهُم في وَحْلِ العارِ، فلم يعد يذكِرُهُم ذاكرٌ. لَقَدْ بَلَغَ تَعَلُّقُ العامَّةُ به حدَّاً جَعَلَ الأبناءَ لا ينظرونَ إلى آباءِهِم نظرةَ الاقتداءِ بهم، فحلَّ جلجامشُ مَحَلَّ الآباءِ، ولم يتوقَّف الأمرُ عند ذلك، فالبناتُ اللائي من عادتِهِنَّ التَعَلُّقَ بأمَّهاتِهِنَّ أصابَهُنَّ ما أصابَ الأولادُ، فلم يكنْ لهُنَّ ذكرٌ لأحدٍ سوى جلجامشَ. ثمَّ عَطَفَ النصُّ على ما هو أكبر وأشدّ وقعاً على نفوسِ الأبطالِ حينما أعلنَ أنَّ بناتهم بل وزوجاتهم طالهُنَّ نفسُ الشعورِ من محبَّةِ جلجامشَ والإكثارُ من ذِكْرِهِ. وهكذا يتدرَّجُ النصُّ من الأدنى إلى الأعلى آخذاً شِدَّةَ العلائقِ وقوَّتَها بنظَرِ الاعتبارِ كما لو كان قَدْ أجرى دراسةً كاملةً حولَ هذه العلائقِ. فالبنتُ تتعلَّقُ بأمِّهَا كثيراً، ولكنها تتعلَّقُ بوالدِها أكثرَ خصوصاً إذا كان من أهلِ الشهرةِ وكما قيل (كلُّ بنتٍ بأبيها معجبةٌ)، ثمَّ يزدادُ تعلُّقُهَا بحبيبها (أو خطيبها) أو زوجها أكثرَ من كلِّ أولئك. ولما كانت الشخصيَّةُ الشاكيةُ واحدةً وهي (البطلَ المغتاظَ) فإنَّ التدرُّجَ أَخَذَ قالبَهُ وِفْقَ أحدثِ نتائجِ علمِ النفسِ الاجتماعي هكذا: 1ـ ولد أب 2ـ بنت أم 3ـ بنت أب 4ـ بنت زوج فَصَمَ جلجامشُ هذه العلائقَ القائمةَ على أكذوبةِ البطولةِ لهؤلاء (الأبطالِ) المزيَّفينَ.. فماذا يَحصِلُ لأولئك الذين يريدونَ من الآخرينَ أن ينظروا إليهم بأعينٍ مفتوحةٍ من الدهشةِ والإعجابِ حينما وجدوا أنَّ جلجامشَ أدارَ عيونَهُم إليه؟. بالطبعِ سينمو الغيظُ في قلوبِهِم وتشتَدُّ نقمَتُهم على جلجامشَ ويصيبُهُم الكَمَدُ: (لازمَ أبطالُ أوروكَ حُجَراتِهِم ناقمينَ مكفهرينَ) لم يخرجوا إذن كما خَرَجَ الناسُ ولا يمكنُهُم إطاقةَ ما يلهَجُ به الشارعُ والمعبدُ من ذِكْرِ جلجامش!. لازم الأبطالُ حجراتِهِم.. ومع ذلك فأن المصيبةَ حلَّتْ في دورِهِم إذ أنتقلَ الحديثُ عن جلجامشَ من الشارعِ والمعبدِ ليكون فاكهةَ الكلامِ في الدُورِ فلم يَطِقْ هؤلاء وضعاً كهذا أدَّى إلى إهمالِهِم فقدَّموا شكاتَهُم تلك. وهي شكوى المُقِرِّ بإفلاسِهِ والمُقِرِّ في عينِ الوقتِ بأنانيتِهِ. ولا يبقى هنا أيُّ إشكالٍ سوى ما في السطرِ الثامن عشر حيث تُرْجِمَ إلى: (وظلَّ الأربابَ يسمعون بكاؤهُنَّ باستمرارٍ) ولكنْ في ترجمةِ طه باقر يعود الضميرُ على الأبطالِ المذكورين: (وأخيراً استمَعَ الآلهةُ إلى شكاتِهم واستغاثَتِهم) وقَالَ في الهامشِ: (وفي بعضِ الرواياتِ "شكواهن" ولعلَّ هذا إشارةٌ إلى شكوى النساءِ إلى الآلهةِ من مظالمِ جلجامشَ)! ثمَّ قَالَ: (وأن هذا قَدْ ورد في بحث أجنبي يبدأ باسم ""O. Ravan)، ويقصد بالروايات النصَّ الحثي. ولكنَّ هذا الاستنتاجَ يكون عشوائياً حينما نقارنُ مفردةً واحدةً بمعزلٍ عن كامل النصِّ وتغيُّراتِهِ المقابلةِ. إذ تتوجَّبُ ملاحظةُ الضمائرِ منذ السطرِ الخامسِ. فبدلاً من القولِ (أهو راعينا القويُّ الجميلُ العارفُ)، جاء النصُّ بضمائرٍ مختلفةٍ: (هو راعيهم القويُّ الجميلُ العارفُ)، وهذا التغيرُ يستلزمُ أن تكونَ عباراتُ الشكوى في السطر (18) من مقولِ الأبطالِ ولا تشتركُ مع مقولِ الكاتبِ، ولذلك تتغيرُ الأفعالُ نفسُهَا. والآن أوضِّحُ هذا الأمرَ: فحينما قَالَ: (أستمعَ الآلهةُ إلى شكواهم)، فقد أستخدم صيغةَ الماضي وهو يَسْرِدُ الأحداثَ. فالكلامُ هنا للكاتبِ. ولكن حينما يكونُ الكلامُ لهم فأنَّهم لا يعلمون هل يستمعُ الأربابُ أم لا، إذ لا يعلمون مدى استجابتِهِم للمطلبِ خلال الفعلِ المستمرِّ، فأوضحَهُ الكاتبُ في السطر (19)، أما قبلَهُ فالكلامُ له: (والأربابُ يستمعون بكاؤهن باستمرارٍ) فهذا من قولِهِم استمراراً للشكوى، وعلى الأغلبِ فإنَّ هذه الترجمةَ غيرُ دقيقةٍ، وإنَّ الترجمةَ الأخرى هي الصحيحةُ. فأن قُلْتَ: (ولماذا تكونُ خاطئةً؟، أليست هذه الشكايةُ نفسُهَا وَرَدَتْ على لسانِ الرجُلِ الغريبِ وهو يشكو من جلجامشَ وأفعالِهِ لأنكيدو في ما خطَّط له الأبطالُ؟) نعمْ.. هذا صحيحٌ جداً.. ولكنَّ اتِّهامَ جلجامش بما ليس فيه أمرٌ ممكنٌ جداً بالنسبةِ لأنكيدو الآتي من البريةِ، بينما تكون هذه الشكايةُ مكشوفةٌ حينما تُقَدَّمُ للأربابِ (والذين هم هنا رموزٌ للقوى الكونيةِ). فحينما تمَّ خَلْقُ أنكيدو تطوَّرَتْ الشكاوى فكذَّبوا عليه لأنَّهُ مخلوقٌ إنسانيٌّ يمكنُ خداعُهُ. وعدا ذلك فإنَّنا نعلمُ أنَّ هذه الفقرةَ هي من شكايِتِهم تحديداً لأنَّ النصَّ البابليَّ أعادَ الفقراتِ كلَّها مجدداً وهم يقدِّمونَ الشكوى إلى (آنو) إلهَ السماءِ وخَتَمَهَا بالقول: (استمعَ الإلهُ آنو إلى شكواهم) ـ بضمير الذكور، والضميرُ هنا يعود إلى الأبطالِ لا إلى الأرباب قطعاً حيث اختفتْ هذه العبارةُ من النصِّ الآشوري عند إعادة الفقرات. إنَّ هذا يذكرنا بإخوةِ يوسفَ في النصِّ القرآنيِّ حيث قالوا: (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ) (يوسف:9) فالغايةُ من التحريضِ على جلجامشَ هو تخليةُ الوجوهِ التي تحملقُ في الأبطالِ من النساءِ والأولادِ والشبَّانِ بدلاً من أن يكونوا مشغولينَ بجلجامشَ. ... القيصر $ | |
|
| |
{ القيصر }
عدد المساهمات : 311 النقاط : 517 الشُّهرة : 3 تاريخ التسجيل : 20/03/2011 العمر : 35 المكان : سوريا - حمص - مقيم في السعودية الجنس : المزاج : اعتباراً من الغد
| موضوع: رد: ملمحمة جلجامش البابلية السبت 10 سبتمبر 2011, 5:12 am | |
| إن هذه الملحمة ليست مجرد قصة وحسب إنها التاريخ يُطوى قي كلمات ونصائح قد خلدها الإنسان بالإيمان بها
... القيصر $ | |
|
| |
{ القيصر }
عدد المساهمات : 311 النقاط : 517 الشُّهرة : 3 تاريخ التسجيل : 20/03/2011 العمر : 35 المكان : سوريا - حمص - مقيم في السعودية الجنس : المزاج : اعتباراً من الغد
| موضوع: رد: ملمحمة جلجامش البابلية الإثنين 19 سبتمبر 2011, 10:33 pm | |
| إن هذه الملحمة من أشهر الملاحم التاريخية وأقربها للواقع ونصها هذا ذو شرح مطول ولربما ليس الكامل إلا أنني قدمته بغية إغناء هذا المنتدى الكريم
... القيصر $ | |
|
| |
| ملمحمة جلجامش البابلية | |
|