الخط الحديدي الحجازي

في العام 1864 اقترح مهندس أمريكي على السلطان العثماني ربط الآستانة بساحل البحر الأحمر عن طريق دمشق بخط حديدي ، ولكن هذا المشروع لم يظهر إلى الوجود بسبب عدم سيطرة الدولة العثمانية على لواء الكرك آنذاك .
وفي العام 1880 أطلق وزير الأشغال العثماني فكرة ربط الآستانة بالحجاز بخط حديدي ، إلا أن الدولة العثمانية في حينها كانت تقع تحت أزمات مالية كبيرة ، فلم تتم الاستجابة لهذا المشروع .
وفي العام 1900 كان لا بد لهذا الخط أن يقام ، خصوصاً وأن السلطنة العثمانية كانت بحاجة إلى بسط نفوذها وسلطتها على الأجزاء البعيدة عن السلطنة ، وذلك بواسطة أفضل المواصلات في ذلك الحين وهي الخطوط الحديدية ، فتم إعداد مشروع لمد هذا الخط على ثلاثة مراحل :
1. المرحلة الأولى : الآستانة ـ دمشق ـ المدينة المنورة .
2. المرحلة الثانية : المدينة المنورة ـ جدة ـ مكة المكرمة .
3. المرحلة الثالثة : مكة المكرمة ـ اليمن .
بدئ العمل في المرحلة الأولى من هذا المشروع في أيلول من عام 1900 بين دمشق والمدينة المنورة ، وذلك لأنه كان يوجد هناك خط حديدي يربط بين دمشق ـ الآستانة ـ أوروبا ، وهب المسلمون من جميع أنحاء العالم للعمل في إنشاء هذا الخط الحديدي الحجازي ، ومنحه السلطان عبد الحميد صفة الوقف الإسلامي ، وافتتح باب الاكتتاب عليه بمبلغ 320 ألف ليرة ذهبية عثمانية ، وتبرع شاه إيران بمبلغ 50 ألف ليرة ذهبية ، وأرسل الخديوي عباس الثاني من مصر كميات كبيرة من مواد البناء ، ونقلت مخصصات إدارة الحج البالغة 150 ألف ليرة ذهبية سنوياً إلى ميزانية الخط الحديدي ، وتبرع السلطان العثماني بمبلغ 60 ألف ليرة ذهبية ، وتم إصدار طابع مالي باسم الخط الحديدي الحجازي ، يلصق على كافة المعاملات في السلطنة العثمانية ، كما تم بيع بعض الشعارات والأوسمة وجلود أضاحي الحج لصالح الخط الحديدي الحجازي .
وبعد ثماني سنوات وتحديداً يوم 23 آب من عام 1908 وصل جمال باشا السفاح على أول قاطرة حديدية إلى المدينة المنورة ، وكانت قد بلغت تكاليف هذا المشروع 8.5 مليون ليرة ذهبية عثمانية لخط حديدي طوله 1308 كم وعرضه 105 سم .
ويرى المؤرخون أن لهذا المشروع هدفين :
1. هدف ديني: حيث كان موكب الحج يستغرق من الآستانة حتى المدينة المنورة ثمانية أشهر، ويتعرض في معظم مراحله للمرض والعذاب وغزوات البدو من نهب وسلب ، وكثيراً ما كان السلطان العثماني يكلف رئيس الجندرمة بإمارة الحج ليرد غزوات البدو، أما بواسطة الخط الحديدي فكانت الرحلة لا تستغرق أكثر من شهرين مع توفر الأمن والاستقرار لكل الحجيج .
2. هدف عسكري : حيث كان هذا الخط يؤمن سرعة اتصال السلطنة بولاياتها بشكل كبير وسريع حيث كانت تعمل على الخط خمسون قاطرة ، و مئة وثمانون عربة ركاب ، وأربعة خزانات مياه لإمداد نقاط الحراسة ، وتستطيع هذه القاطرات نقل العدد والعتاد والجند بأقصى سرعة ممكنة .
كانت هذه القاطرات تعمل على الحطب ، وكان يؤتى به من سورية ولبنان ، حيث قضى العثمانيون على بعض الغابات فيها ، أما في الحجاز فكان الحطب نادراً ، وقد سعى بعض الولاة العثمانيين إلى هدم بعض منازل المدينة المنورة للاستفادة من أخشابها لتموين القاطرات بالأخشاب ، وقد تعرض هذا الخط الحديدي للتخريب أثناء الحرب العالمية الأولى بتشجيع من إنكلترا وفرنسا بغية قطع الاتصالات بين الأقطار العربيــة ، وقد نجح هذا التخريب على الرغم من وجود خمسة آلاف جندي لحراسة هذا الخط و ثمانمائة جندي لإصلاحه .
وشرعت الحكومة التركية بتنفيذ المرحلة الثانية من المشروع بمسافة 420 كم بين المدينة المنورة ـ جدة ـ مكة المكرمة ، إلا أن الشريف حسين عارض الفكرة ، وذلك لأن هذا القطار سيقضي على أرزاق البدو الذين اعتادوا على كسب عيشهم من تأجير الجمال .
وهكذا فقد بقي الخط الحديدي الحجازي وقاطراته المهترئة شاهداً حياً ، تناجزه عاديات الأيام ، وتداعبه رمال الصحراء ، ويحكي قصته مقهى الحجاز في دمشق الخالدة .